في رياض السنة: العمل الذي يبقى وينفع صاحبه بعد رحيله إلى دار البقاء

في رياض السنة: العمل الذي يبقى وينفع صاحبه بعد رحيله إلى دار البقاء


عن انس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يتبع الميّت ثلاثة:أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله ويبقى عمله. (رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم) هذا الحديث الشريف رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل انس بن مالك رضي الله عنه وهو الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشره من قرب وعرف منه ما لا يعرفه سواه ممن لم تتوفر لهم هذه الخصوصية، لقد عاش سيدنا انس رضي الله عنه مع رسول الله في أحوال الشدة وأحوال الرخاء وفي أحوال العسر وأحوال اليسر وفي السفر وفي الإقامة فرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم العجب العجاب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو لم يتغير ولم يتبدل ولم يتحول عما جبل عليه من تطابق بين الظاهر والباطن، في حضور الناس وفي غيابهم، كان عليه الصلاة والسلام صاحب الخلق الكريم مدحه ربه في كتابه العزيز فقال جل من قائل (وانك لعلى خلق عظيم) أدبه ربه فأحسن تأديبه وقال في حقه موجها المؤمنين للطريق القويم والصراط المستقيم الذي يرضي الله رب العالمين (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وإذا كان ذلك هو خلقه وذلك هو أدبه الرفيع وكفى بشهادة الله له فإن مما يرسخ القناعة ويقيم الحجة على انه صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل الذي لا يرد عليه كما قال الإمام مالك (كلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى صاحب القبر الشريف سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فمن ذلك جاءت شهادات من عاشروه من قريب كزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين وعلى رأسهن السيدتان خديجة وعائشة رضي الله عنهما فقد قالت له السيدة خديجة (والله لن يخزيك الله انك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيق وتعين على نوائب الدهر). وقالت عنه السيدة عائشة (كان خلقه القرآن) أو راوي هذا الحديث سيدنا انس بن مالك الذي قال: (ما قال لي في يوم من الأيام أف، وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولشيء لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله بل كان يقول ما شاء الله كان). يا لها من شهادة إنصاف واعتراف بخلق هذا الرسول الكريم وهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام الذي أكرمنا الله بأن بعثه فينا وهو منا والينا ليخرجنا به من الضلال إلى الإيمان وليسلك بنا الطريق المستقيم ويرشدنا إلى ما فيه خيرنا وصلاحنا وفوزنا ونجاتنا فلم يترك عليه الصلاة والسلام بابا من أبواب الخير إلا ودعانا إليه بسلوكه قبل قوله صلى الله عليه وسلم أليس هو من قال لنا الله فيه (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)؟ ما يحيينا في الدنيا حياة كريمة سعيدة أساسها الامتثال لأوامر الله ونواهيه، وما يحيينا في الآخرة في رضوانه وجزائه الأوفى والأكبر والأعظم (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فالسعادة إن هي اقتصرت على نعيم الدنيا من صحة وعافية ومال وبنين وجاه وغير ذلك تكون ناقصة إذا لم يضف إلى ذلك رضوان الله على ما تقدمه أيدينا من عمل صالح نأتيه في هذه الحياة الدنيا العاجلة. وعظمة دين الإسلام هي في التوفيق بين ما يعد لأول وهلة متعارضا متناقضا، إن المسلم في حل من الاختيار الصعب على النفس البشرية: إما الدنيا وإما الآخرة، إن المسلم يقول له ربه في كتابه العزيز (وابتغ في ما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك). إن الله تبارك وتعالى يأمر المسلم بأن يدعو بقوله جل من قائل (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). إن خطاب الشرع الصحيح هو خطاب التوازن والتكامل فليس بخير الناس من يترك دنياه ولا هو بخير الناس من يترك دينه ولكن خير الناس من يأخذ منهما ولا ينسى أيا منهما. فعمل المسلم كما ورد في الأثر هو عمل للدنيا كأنه يعيش فيها أبدا وعمل للآخرة كأنه يموت غدا. ولأجل ذلك فإننا نجد في آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إرشادا وتوجيها وتذكيرا بأن لا ينسى المسلم أي طرف من هذه الثنائية ففي هذا الحديث ينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلنا ميتون لا محالة، إذ (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) البقاء والخلود لله وحده وما دام الأمر كذلك وجب على المسلم أن يعمل لما بعد الموت مثلما يعمل لما قبل الموت، ولكل مرحلة عملها وزادها وزاد الدار الآخرة (أي ما بعد الموت) هو التقوى يقول جل من قائل (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) يذكرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بحقيقة نعيشها ونراها رأي العين تتمثل في هذا الركب المتلاحق المتواصل من الراحلين إلى دار البقاء من الأقارب والأجوار والآباء والأمهات والإخوان والأخوات يشيعهم إلى مثواهم الأخير الذي لا رجوع بعده أهلهم وأموالهم وأعمالهم أما الأهل والمال فإنهما يعودان ولا يبقى مع الميت في قبره إلى أن يبعث للحساب إلا عمله، أي ما قدمت يداه، يقول جل من قائل (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) إن من حقّ الأهل والولد أن نتركهم في أحسن حال ولكن من حق أنفسنا علينا أن نأخذ شيئا مما جمعناه وتعبنا في سبيل تحصيله لنجده في صحائفنا ويتحقق لنا ما نأمله بما تقدمه أيدينا من معروف: صدقة وصلة وإحسانا ونفقة في سبيل الله لا نريد من ورائها جزء ولا شكورا. فذلك هو العمل الذي تعتق به رقابنا من نار جهنم وعذابها الشديد الذي لا إنفكاك منه إلا بالعمل الصالح الذي هو بذل المعروف بكل مظاهره وتجلياته من أقوال وأفعال تقر بها عيوننا يوم لا ينفع مال ولا بنون وما على المؤمن إلا أن يحرص على أن يكون العمل الذي يرد به على ربه عملا صالحا يرضي الله وليس عملا يغضبه ويحق به عليه عقابه.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.