في استقبال رمضان :خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ صلاح الدين المستاوي في جامع الإصلاح بمونتراي Montreuil 8 ماي 2017

في استقبال رمضان :خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ صلاح الدين المستاوي في جامع الإصلاح بمونتراي Montreuil 8 ماي 2017


الحمد لله حمدا لا غاية لمنتهاه وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أسلم وجهه لمولاه وجعل مرضاته غايته ومبتغاه. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ختم الله به الرسل والأنبياء –عليهم وعليه أفضل الصلاة وأزكى وأتم وأكمل السلام- أرسله الله بدين الإسلام بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله فإذنه وسراجا منيرا، أخرجنا الله بالدين جاء به من عند الله من الضلال إلى الإيمان من الظلمات إلى النور ومن الجور إلى العدل ومن الضيق إلى السعة، رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده، قال في حقه وفي حق رسالته: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

بعثه إلى الناس كافة أبيضهم وأسودهم، عربا وأعاجم، كل الأجناس والأمم وعلى امتداد الزمان والمكان إلى أن يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين رفع الله عنا بهذا الدين الذي وعد بإتمام نوره وإعلاء كلمته وحفظ كتابه، رفع عنا الإصرار والأغلال وما جعل علينا في هديه القويم من حرج، فقال جل من قائل: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد العسر).

دين قويم سمح الرحمة والرفق واللين صفته وشعاره، وهديه في كل ما أمر به الله وما نهى عنه. تجسيما وانسجاما مع قوله جل من قائل في حق سيدنا وشفيعنا وقرة أعيننا محمد –عليه الصلاة والسلام-: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) .

فلله الحمد والشكر على نعمة الإسلام وهي أعظم نعمة وأكرم منة تكرم بها علينا سبحانه بأن هدانا إلى الصراط المستقيم والمحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. ها نحن عباد الله المؤمنين نتهيأ لاستقبال ضيف كريم وشهر عظيم أعد لنا فيه عظيم الأجر وجزيل الثواب على ما نقدمه فيه من الطاعات والقربات التي تتضاعف فيها الحسنات أضعافا مضافعة.

إنه شهر رمضان شهر الصيام والقيام بالقرآن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). جعل الله تبارك صيام رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة فكتب على المكلفين (والمكلف هو المسلم العاقل البالغ الصحيح المعافي) صيام هذا الشهر المبارك. وقال جل من قائل: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات).

وقد بين الله تبارك وتعالى العلة والغاية التي من أجلها فرض على عباده صيام رمضان إنها تحقيق التقوى، أي الخشية لله التي يتفاضل بها العباد، إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صور الناس ولا إلى وجوههم ولكن ينظر إلى قلوبهم التي هي محل التقوى. فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى صدره قائلا: (التقوى ههنا التقوى ههنا، التقوى ههنا)، والأعمال التي ينظر إليها الله هي الأعمال الصالحة (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) والعمل الصالح الذي يرفعه الله هو العمل الخالص لوجهه الكريم (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). العمل الصالح هو العمل الخالص لوجه الله الذي لا تشوبه شائبة من رياء وتظاهر وعجب، إن الله لا يقبل من العمل إلا أصوبه الذي أساسه الاتباع لا الابتداع، أي ما وافق السنة عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله: (خذوا عني مناسككم) ففي اتباع السنة النجاح والفلاح.

والشرط الثاني لقبول أي عمل من الأعمال التي يتقرب بها المسلم إلى ربه هو الإخلاص عملا بقوله جل من قائل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)، (ألا لله الدين الخالص). والصيام عموما وصيام شهر رمضان خصوصا هو عبادة الإخلاص لله رب العالمين ولأجل ذلك استحق أن ينسبه الله إليه فهو عمل المسلم ولكن الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، قال الله عز وجل: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) هذا المتفق عليه.

وفي رواية الإمام البخاري: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به  والحسنة بعشر أمثالها).

وفي رواية الإمام مسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به: يدع شهوته وطعامه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).

هنيئا للصائم بهذا التكريم الإلهي الذي يناله بنسبة صيامه إلى ربه وما ذلك إلا لأن الصوم دون سواه من بقية أركان الإسلام –هو العمل الخالص الذي لا يعتريه الرياء، إنه عبادة سرية بين العبد وربه، الله وحده هو الذي يعلم ما تخفي الصدور و هو الذي يعلم الصائم من غير الصائم، بينما الصلاة يراها الناس حين نؤديها وكذلك الحج والزكاة.

كما أن الصيام عبادة يشارك فيها المؤمنون من أمة سيدنا محمد –عليه الصلاة والسلام- الملائكة الذين غذاؤهم العبادة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لم يخلق الله فيهم الشهوات ولا الغرائز من أكل وشرب وغيرهما مما خلقه الله في الإنسان ومع ذلك فإن هذا الإنسان المطيع لربه المتمثل لأوامره سبحانه وتعالى يمتنع عن الأكل والشرب وسائر الشهوات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فكيف لا ينال بهذا العمل الخالص لوجه الله الجزاء الأوفى والأجر العظيم الذي لا يجازي عليه إلا الله العليم بقدره وقيمته لذلك، قال الله: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام)، وقال: (كل عمل ابن آدم يضاعف له: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به).

ويبين المولى سبحانه وتعالى لماذا يتولى مجازاة عبده بنفسه على صيامه فيقول: (يدع شهوته وطعامه من أجلي)، من أجل الله سبحانه وفي سبيل تحقيق مرضاته لا يبتغي الصائم من عمله الخالص لوجه الله جزاء لا شكورا لذلك فإن الجزاء الذي يعده به ربه سبحانه وتعالى لا يمكن حصره لا عده إنه أضعاف مضاعفة لا يعلم قدره وقيمته إلا الله سبحانه وتعالى وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.

هنيئا للمؤمنين بمقدم هذا الشهر العظيم هذا الشهر الذي بشر الصائم له إيمانا واحتسابا بغفران ذنوبه. عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهو شهر تفتح أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد فيه الشياطين. قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت فيه أبواب النار وصفدت الشياطين) متفق عليه.

إن رمضان هو موسم الطاعات ومضاعفة الحسنات النافلة ترتفع إلى مرتبة الفريضة والفريضة بسبعين مثلها.

ورمضان شهر التراحم والتآزر، شهر الكرم والإحسان إلى من حولنا من إخواننا المحتاجين، بشر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو الكريم دائما ولكنه في شهر رمضان يكون كالريح المرسلة ينال كرمه الجميع كما تقول كتب السيرة النبوية العطرة، قال عليه الصلاة والسلام: (من فطر صائما كان له أجر ذلك الصائم لا ينقص من أجر الصائم شيئا، قال الصحابة: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله يعطي هذا الأجر لمن فطر صائما على حبة تمر على مذقة لبين على جرعة ماء).

ألا يستحق منا مقدم شهر رمضان علينا أن نحمد الله على أن أحيانا لنكون ممن يصومونه إيمانا واحتسابا؟ وقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمجرد دخول شهر رجب لا يفتأ لسانه يردد (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان).

وإنه لغافل من يدركه رمضان و هو على قيد الحياة ولا يغفر له!!! استحق هذا الغافل عن هذا الخير القادم أن يدعو عليه الأمين جبريل عليه السلام بعدا له عن الجنة؟ وأن يؤمن على هذا الدعاء رصول الله –صلى الله عليه وسلم-.

جعل الله أول رمضان رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقا من النار، وجعل الله تبارك وتعالى في العشر الأواخر منه ليلة هي خير من ألف شهر، ليلة القدر تتنزل فيها الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر، ليلة سلام حتى مطلع الفجر، الللية الهدية للأمة المحمدية إكراما لهذا النبي العظيم وهذا الرسول الكريم الذي قال الله في حقه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص علكيم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

 أحرصوا عباد الله في هذا الشهر القادم عليكم بالخير والبركة والرضوان ألا تحرموا أنفسكم من الأجر والثواب اللذين أعدهما الله للصائمين القائمين بالقرآن الكريم في ليالي هذا الشهر العظيم فلا يكن صيامكم مجرد امتناع عن الطعام والشراب وقد حذر رسول الله –صلى الله عليه وسلم من ذلك في أحاديث عديدة فقال: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)، وقال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في ترك طعامه وشرابه).

الصيام الحقيقي الذي يتحقق به لنا الأجر والثواب هو الصيام عن كل ما يغضب الله من قول وفعل طيلة أيام صيامنا في كل معاملاتنا ذلك هو الصيام الذي تتحقق التقوى التي هي خير زاد نتزود به في سعينا إلى ربنا وفي رحلتنا إلى الدار الآخرة التي لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الصيام تتحقق به التقوى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكن لعلكم تتقون)، والتقوى هي خير ما يتزود به المؤمن (وتزودوا فإن الزاد التقوى).

ليكن شهر رمضان القادم علينا بالخير فرصة لتجسيم قيم الإسلام في قيم التآخي بيننا في الله والتحابب في الله والتعاون على البر والتقوى. لتكن مساجدنا وبيوتنا عامرة بذكر الله وتلاوة القرآن والإكثار من الصلاة على الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام امتثالا لأمر الله الذي بدا نفسه وثنى بالملائكة فقال جزل من قائل: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

لتكونوا أيها المؤمنون وأنتم في هذه الديار (سفراء الاسلام) تقدنون صورة الإسلام الصحيحة، لتكونوا في مستوى هذا الشهر المبارك العظيم: سيرة وسلوكا قولا وفعلا، دعاة للإسلام في تراحمكم وتآزركم وتضامنكم وفي كرمكم وفي عمارتكم لبيوت الله بأفضل ما تعمر به من إقامة للصلوات فرائض وسننا ونوافل وصلاة قيام وبما تبذلونه في سبيل الله من عطاء يضاعف الله الأجر عليه أضعافا مضاعفة فما عندكم ينفد وما عند الله باق (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء).

أقول قولي هذا واستغروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.



الكلمات الشائعة القرآن رمضان شهر مبارك

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.