خطبة جمعة ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع الاصلاح بمونتراي (Montreuil)

خطبة جمعة ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع الاصلاح بمونتراي (Montreuil)


فرنسا يوم 28 أكتوبر 2016

خطبة جمعة ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع الاصلاح بمونتراي (Montreuil)

الأخلاق الحميدة والمعاملة الحسنة مع الجميع هي علامة الدين وأساسه

الحمد لله الحليم المنان العظيم السلطان ذو الجلال والإكرام وأشهد ان لا اله الا الله شهادة خالصة صادقة تكون مفتاحا لنيل الرضوان وسكنى الجنان.

وأشهد ان سيدنا محمدا خير ولد عدنان عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه اخرج الله به العباد من عبادة الاوثان الى عبادة الله الواحد القهار، وهداهم به الى الصراط المستقيم، صراط من أنعم الله عليهم ورضي عنهم ورضي لهم الاسلام دينا صلى الله عليه صلاة يتضاعف عددها بتعاقب الأيام والليالي يعظم ثوابها ونوالها ويتواصل مددها ليعم كل الأمة.

أما بعد أيها المسلمون المرابطون في هذه الديار وما وراءها من بلاد الله انتم في زمان طغت فيه المادة وانشغل فيه الناس الا من رحم ربك بالعاجل عن الآجل حتى أصبحت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم، وراءها يلهثون وفي سبيل تحصيلها يتنافسون ويبيحون لأنفسهم المُحرم والمحظور متغافلين متناسين أن الحياة الدنيا مهما طال البقاء فيها فهي زائلة فانية. فالبقاء هو لله وحده، خوطب بهذه الحقيقة أفضل خلق الله وأحبهم إليه سيد الكائنات عليه الصلاة والسلام فقال له ربه (إنك ميت وانهم ميتون) أفبعد هذا يطمع أحد في الخلود والبقاء؟ إنها رحلة قصيرة مهما طالت فالكل في هذه الحياة عابر سبيل إذا جاء اجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم.

المؤمنون من أتباع الرسالات السماوية يسلمون بهذه الحقيقة السرمدية ولذلك فإنهم يجعلون نصب أعينهم قول ربهم في كتابه العزيز (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الحياة الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك) وقوله جل من قائل (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) تقوى الله في السر والعلن وعدم الطغيان والعلو في الأرض وإفسادها هو الكفيل بجعل العبد مستحقا لنيل رضوان الله في الدار الآخرة .

الأديان السماوية وخاتمها دين الاسلام الذي أرسل به للناس سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رحمة بهم جميعا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الاديان السماوية هي التي أرشدت الى ذلك الانسان الذي كرمه الله (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) واستخلفه في الأرض في هذه الحياة الدنيا (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) .

الأديان وختامها دين الاسلام هي التي أرشدت الى هذه الثنائية في كل شيء: الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والليل والنهار، والنور والظلام، والخير والشر، والذكر والأنثى .

الاديان السماوية ودين الاسلام باعتباره الدين الكامل والخاتم والدين الذي رضيه الله لعباده والقائل في حقه ما تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) .

الاديان السماوية ودين الاسلام الذي شرح الله له صدورنا هو الذي يحقق للمؤمن التوازن الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا ضرر فيه ولا ضرار بل توسط واعتدال.

في هدي الاسلام الاستجابة لما خلق الله في الكائن البشري وهو ما جسمه في الواقع المعيش سيد الأنام عليه الصلاة والسلام الذي كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يخالط الناس ويُعاشرهم يؤدي كل ما عليه من حقوق نحو ربه خالقه ورازقه ومحييه ومميته والمنعم عليه بما لا يمكن عده وحصره مما هو ظاهر وباطن (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ونحو نفسه وأهله وسائر من يحيط به ممن خلق الله من العباد والكائنات الحية يوجه عليه الصلاة والسلام الى هذا النهج القويم بقوله (إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه) بهذه النظرة ينبغي على المسلم ان يفهم دينه، إنه الفهم الصحيح الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي امرنا ربنا أن نجعله أسوة وقدوة (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وجعل محبة الله لا تكون الا باتباعه ليس فقط في كيفية آداء ما فرض الله على عباده مما هو حق له عليهم ومن أجله خلقهم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) ولكن اتباعه عليه الصلاة والسلام في سائر التصرفات: أقوالا وأفعالا بما فيها الأفعال القلبية التي هي أساس الصلاح والفلاح وسبب النجاة (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) لقد كان صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة للأمة في كل شأن من شؤون الحياة، أدبه ربه فأحسن تأديبه وقال في حقه مادحا لخلقه الرضي (وإنك لعلى خلق عظيم) خلق كان فيه المثل الاعلى قبل البعثة حيث كان يلقب بالصادق الأمين وبعد البعثة حيث جسم الرأفة واللين والرحمة بالكبير والصغير والذكر والأنثى والقريب والبعيد، كان كما قال فيه ربه في سياق المنة ببعثته للأمة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) رحيم بهم بما يسره الله عليهم في الدين الذي جاءهم به (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فبذلك كان يوصي أصحابه (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) قال لهم وللامة (لم أبعث سبابا ولا لعانا ولا فحاشا) قابل عليه الصلاة والسلام الاساءة والقطيعة بالعفو والصفح والإحسان، هكذا كان قوله يوم الطائف ذلك اليوم العصيب الذي أطلقت فيه عليه الكلاب واخرج في اليوم الشديد الحر لم يزد على انه قال (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وهكذا كان جوابه يوم فتح مكة لقريش وقد وقف رؤوسها بين يديه صاغرين لم يزد على ان قال لهم (لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء) وزاد فأعطى الأمان الى اعداء الأمس فقال (من دخل دار ابي سفيان فهو آمن) وفي دار ابي سفيان آكلة كبد عمه سيدنا حمزة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترفع عن الضغائن والأحقاد وكيف لا يكون كذلك وهو يتلو قول ربه ويبلغه للناس (ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) وقديما قيل (لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب) وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في اعلى الرتب الاخلاقية وقد حصر الغرض من بعثته رسولا من الله لعباده ليرشدهم الى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال فقال عليه الصلاة والسلام (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) هذه الأخلاق التي يستحق المؤمن المتصف بها ان يكون أقرب الناس منزلا من رسول الله يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام (هل أدلكم على أقربكم مني مجالسا يوم القيامة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويُألفون)

نعم أيها المؤمنون، الأخلاق الحميدة والمعاملة الحسنة مع الجميع هي علامة الدين وهي أساسه وركيزته بعد الايمان بالله والقيام بما فرض الله، بل إن الفرائض إذا لم تؤثر على الأخلاق والسلوك في الأقوال والأفعال والمشاعر فهي مردودة على صاحبها، أ لم يقل جل من قائل (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تأكيدا حين قال (من لم تنهه صلاته (أي عن المنكر من الأقوال والأفعال) فلا صلاة له) وقال (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في تركه طعامه وشرابه) وقال (كم من صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش) فالعبرة في الاسلام هي بالنتائج، اي باثر الايمان في سلوك المؤمن وفي معاملاته فإذا أصيب العبد والعياذ بالله بالازدواج والاختلاف بين الأقوال والأفعال كان معنيا بقوله جل من قائل (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

والمصيبة العظمى التي تصاب بها الأمم والأفراد هي المصيبة في الأخلاق وصدق الحكيم القائل (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا) وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم ماتما وعويلا *والبداية في الأخلاق والمعاملة تبدأ بالنفس (ابدأ بنفسك وانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم) (لا تنه عن خلق وتاتي مثله عار عيت عليك اذا فعلت عظيم) لن يسمع الناس كلامك ولن تؤثر فيهم نصيحتك اذا رأوا فيك اختلافا بين القول والفعل *انه ابلغ ألف مرة أن يكون الانسان صادقا أمينا عفيفا رفيقا لينا وصولا كريما من ان يظل يدعو الى هذه القيم الأخلاقية بلسانه ولا يأتيها في أفعاله وسائر تصرفاته *والمصيبة تعظم عندما يدعو الانسان الى هذه القيم ويخالفها في اقواله وافعاله وسائر تصرفاته، انه النفاق الذي حذرنا الله من مغبة الوقوع فيه ومن مصير أصحابه حين قال (ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار) *لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم النقاط على الأحرف حين قال (ليس الايمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الايمان ما وقر في القلب وصدقه العمل) أي العمل الصالح العاصم من الخسران الوارد في سورة العصر (والعصر إن الانسان لفي خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *هذا هو مقياس التدين الحقيقي وهذا هو حجر الزاوية والأساس في الدين، العمل الصالح الخالص لوجه الله والذي لا يتحقق ولا يصل اليه الا من كان لنفسه الأمارة بالسوء بالمرصاد في كل آن وحين، وذلك ضرب من الجهاد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد الأكبر حين قال (رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر) انه جهاد لا هوادة فيه، جهاد متواصل نتيجته وثمرته هداية من الله لعبده الى سبيل الله القويم يقول جل من قائل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) .

اين نحن من هذا الجهاد المتواصلل للنفس الأمارة بالسوء وللشيطان عدونا وعدو أبينا آدم؟ *هل نحققه بمجرد السعي يوم الجمعة وفي الأعياد الى بيوت الله للصلوات غير المصحوب بمراقبة الله في الصغيرة والكبيرة ونطمع في نيل رضوان الله وسكنى الجنان؟ هيهات هيهات. كل شيء مرسوم واضح بين في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحلال بين والحرام بين والكيس العاقل من جعل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبراسا يهتدي بهديهما ويعتصم بهما من الضلالة والغواية، غواية الشيطان ووسوسته، الكيس العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ذلك هو نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، أدن نفسك أيها المؤمن فانت أعرف بنفسك من غيرك ممن يرشدك ويوجهك وتستمع الى خطابه (استفت قلبك وان افتوك وافتوك) هكذا قال من لا ينطق عن الهوى فالناس لا يعرفون من بعضهم الا الظاهر فالله وحده هو من (يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور) .

الله تبارك وتعالى لا ينظر الى صورنا ولا الى وجوهنا ولكن ينظر الى قلوبنا وأعمالنا فلتكن أعمالنا مطابقة لأقوالنا عند ذلك وعند ذلك فقط نرضي ربنا ونشرف ديننا الذي نرفع شعاره ويحكم عليه الناس من خلال تصرفاتنا كما هو الحال في هذا الزمان فهل أحوال المسلمين أفرادا وجماعات في ديار الاسلام وخارج ديار الاسلام تشرف الاسلام وتعرف به احسن تعريف؟ الجواب لا شك بالنفي لماذا يا ترى؟ هل العيب في الاسلام؟ أم العيب في الزمان؟ أم العيب في المسلمين؟ الجواب جرى على لسان الحكيم الذي قال نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا نسأل الله العلي العظيم أن يرد الأمة الى سواء السبيل ويهديها الى الصراط المستقيم صراط من انعم الله عليهم من النبيين والمرسلين وسائر عباد الله الصالحين انه سبحانه وتعالى سميع مجيب أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم انه هو الغفور الرحيم



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.