خطبة الجمعة: حول الإحسان ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع عثمان ذي النورين بسفران فرنسا Sevranيوم 23 فيفري 2018

خطبة الجمعة: حول الإحسان ألقاها الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي بجامع عثمان ذي النورين بسفران فرنسا Sevranيوم 23 فيفري 2018


الحمد لله جزيل الثواب جميل المآب سريع الحساب منح أهل الطاعة الطاعة ورغبهم فيها نحمده حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. ونشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ولا ندّ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا شهادة ندخرها عنده تكون سببا في تحقيق رضوانه وسكنى جنانه.

ونشهد ان سيدنا محمدا عبده ورسوله اصطفاه ربه واجتباه وختم به النبوة والرسالة صلى الله عليه افضل صلاة واكملها وأعمها وأشملها وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد ايها المسلمون فان الاسلام الدين الذي رضيه الله لعباده واتم به عليهم النعمة، الدين عند الله، كما تضمنه حديث جبريل عليه السلام الذي يرويه سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي به سمّي الاسلام دين ذي الثلاث: الايمان والاسلام والاحسان فلا يكتمل اسلام المسلم الا بجمع بين الايمان والاسلام والاحسان، وبدون واحد من هذه الثلاثة لا تتحقق للمسلم مرضاة ربه ولا يطمع في نيل الجزاء والثواب الاوفى

*الايمان هو الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر والقدر خيره وشره

*والاسلام هو اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع

واغلب المسلمين هم والحمد لله يسلمون بمكونات الايمان ويبادرون الى اتيان ما أمرهم به ربهم من عبادات هي حقه عليهم (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ما اريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) وقليل من المسلمين من يتجاوزون ذلك الى مرحلة الاحسان المتوجة لدين الاسلام والمكملة له والاحسان كما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في اجابته عن سؤال سيدنا جبريل: أخبرني عن الاحسان؟ فان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء مختصرا بليغا حيث قال: الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك

*ان تعبد الله كأنك تراه، لأن رؤية الله بالعين، الرؤية البصرية في هذه الحياة الدنيا مستحيلة (فكل ما تتصور ببالك فالله بخلاف ذلك) الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء، لا يمكن الاحاطة به بل لا يمكن الاحاطة بشيء من علمه الا بماء شاء (ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء) ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان تعبد الله كانك تراه) متيقنا انك ان كنت لا تستطيع ان تراه لجلاله وعظمته سبحانه وتعالى فانه سبحانه وتعالى يراك حيثما كنت اذ لا يغيب عن علمه ورؤيته مثقال ذرة في الارض ولا في السماء، فهو في السماء اله وفي الارض اله، يعلم دبيب النمل في الحجرة الصماء في الليلة الظلماء، هو معك اينما كنت يعلم ما تخفيه الصدور وما توسوس به القلوب، (يعلم خائنة الاعين وما تُخفي الصدور)، يستوي في علمه الظاهر والباطن والكبير والصغير والكثير والقليل

*فاذا استحضر المسلم ذلك في عباداته من صلاة وصيام وزكاة وحج كانت صلاته صلاة الخاشعين الذين قال الله في حقهم (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه ووعى ما يردد لسانه في فاتحة الكتاب التي لا تصح صلاة بدونها كما قال عليه الصلاة والسلام (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) فقد اعتبرها عليه الصلاة والسلام لبّ الصلاة وعمودها الفقري ولذلك قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) عندما يقول العبد في الصلاة (الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم ملك يوم الدين يقول الله تبارك وتعالى مجدني عبدي بحق الحمد وكمال الحمد فالمولى سبحانه وتعالى علم عجز عباده عن حمده فأنزل الصيغة الكاملة، الصيغة المثلى الصيغة التي ترضي الله وتستوفي حمده الحمد كل الحمد لله رب العالمين

والعبد وهو يتلو فاتحة الكتاب يناجي ربه بكلامه: لك يا ربّ كل الحمد، الحمد كله الذي لا ينبغي لأحد سواك، لك الحمد يا رب كل الخلق وليس رب المسلمين فقط، فهو رب الجميع ربّ الثقلين الانس والجن، المؤمن وغير المؤمن وان أبى وكفر، فلا رب سواه سبحانه وتعالى.

وهو سبحانه وتعالى الرحمان الذي لا يمكن ان يوصف باسمه الرحمان كائن من كان بوصفه وهو الرحيم الرحمة التي يتخلق بها من رضي الله عنهم من صفوة الله من عباده الصالحين والذين على رأسهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الذي قال الله في حقه (لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)

فاذا بلغ المؤمن وهو بين يدي ربه في الصلاة الى قوله جلّ من قائل (اياك نعبد واياك نستعين) وجب عليه ان يتدبر ما يقول وما ابلغه قوله سبحانه وتعالى (اياك نعبد واياك نستعين) فقد سبّق اياك اي الله على نعبد واياك على نستعين) ولم يقل نعبدك ونستعينك وهو اسلوب فيه الحصحصة كأن الله يقول لنا اعلم ايها المسلم وانتبه الى ما تقول أحقا أنك لا تعبد الا الله ولا تستعين الا بالله؟ أم ان ذلك هو قولك بلسانك امّا فعلك فعلى خلاف ونقيض ذلك.؟ !

فالعبادة في اوضح معانيها هي الطاعة والامتثال في الغضب والرضا، والمكره والمنشط، وفي الشدة والرخاء ولا يكون ذلك الا لله الخالق البارئ المصوّر الاول والاخر والمحيي والمميت الحي القيوم والرزاق الذي هو على كل شيء قدير

لننظر مليا الى احوالنا في سائر تصرفاتنا أنحن كما تردد ألسنتنا في الصلاة (اياك نعبد واياك نستعين) أم اننا اذا دعانا داعي الهوى والنفس الأمارة بالسوء أطعناهما وعصينا أوامر ربّنا؟ وقد حذرنا المولى سبحانه وتعالى من اتباع الهوى واتخاذه الاها من دون الله حيث يقول جل من قائل (أفرأيت من اتخذ الهه هواه) وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المهلكات المرديات المغضبات لله حيث قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه)

فالشيطان هو الذي يأمر بالبخل ويعد بالفقر (الشيطان يعدكم الفقر)، وهوى متبع يورد صاحبه في نار جهنم، واعجاب المرء بنفسه، هو الغرور الذي منع ابليس من السجود لآدم ولم يمتثل لأمر ربه فكان جزاؤه اللعنة والطرد من رحمة الله الى يوم الدين لذلك فالعاقل الفطن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وكان لها ولأهوائها بالمرصاد اذا لم يفعل ذلك فهو احمق كما قال عليه الصلاة والسلام(والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) ولله درّ البوصيري حيث قال

                      وخالف النفس والشيطان واعصهما                                وان هما محضاك النصح فاتهم

والنفس هي جوهر الانسان ولبّه وصدق من قال

                       وأقبل على النفس واستكمل فضائلها                        فأنت بالنفس لا بالجسم انسان

والنفس لا يمكن استكمال فضائلها الا بالمجاهدة التي تؤتي ثمرتها وهي الهداية الى الصراط المستقيم يقول جل من قائل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وسبل الله هي خير كلها ونفع كلها ومصلحة كلها.

وسبيل فلاح المسلم وصلاحه واحد لا ثاني له هو التزكية والتطهير للنفس ليصبح قلب المسلم سليما يتوقر فيه الايمان ويعمر بالتقوى والقلب هو محل التقوى الحقيقية والفعلية والتي بها يكون العبد اكرم خلق الله (ان أكرمكم عند الله أتقاكم)

ليست التقوى التي هي التعبير الحقيقي والفعلي عن الايمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنها ما وقر في القلب وصدقه العمل الصالح الذي أعلاه العقيدة الخالصة في الله واحدا لا شريك له والعبادة التي لا تشوبها اية شائبة من رياء وعجب والعمل الصالح على إطلاقه مما فيه نفع للنفس ولكل عباد الله هذه هي التقوى الحقيقية عند الله والتي هي ثمرة التزكية والتطهير من كل الادران والفواحش ولا تحصل التقوى الا بالتزكية (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها)

التقوى هي زاد المسلم في رحلته الى ربّه وفي سعيه اليه (انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه) التقوى هي خير زاد يقول جلّ من قائل (وتزوّدوا فان خير الزاد التقوى) بالتقوى أمر الله عباده المؤمنين في عديد الايات في كتاب الله العزيز فقال جلّ من قائل (اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون)

ومن اين للانسان الضعيف الظلوم الجهول ان يتق الله حق تقاته ويستوفيه نعمه التي لا تُحصى ويقيدها بالشكر؟ انها نعم لا تُعدّ ولا تحصى (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها) نعمة الهداية بعد الضلالة ونعمة الوجود من العدم ونعمة الصحة والعافية، نعم كثيرة في النفس التي بين جنبينا وفي ما يحيط بنا في آفاق الله الواسعة التي دعينا الى النظر فيها بتدبّر حيث قال جل من قائل (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقال (سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) وأمرنا سبحانه وتعالى بالسير في الارض فقد جعل الله هذا الكون محرابا لعبادته، وتقوى الله ان لم تكن حق تقاته وأكمل تقاته فلا أقل من تقواه على قدر الوسع والاستطاعة فقد خفف الله على عباده رحمة منه ورفقا منه بهم حيث قال (اتقوا الله ما استطعتم) وما هو في استطاعتنا كثير أدناه أداء هذه الاركان الخمسة مستوفية لشروطها: صحة وإخلاصا، لأن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال الا اصوبها وأخلصها، وهما شرطان بدونهما لا يتقبل الله منا صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجّا.

الشرط الاول: هو الصواب والصحة اذ لا يُعذر الجاهل بجهله، والمسلم مدعو الى ان يتفقه في دينه الفقه الذي يؤدي به حق الله عليه من صلاة وصيام وزكاة وحج على أصحّ الوجوه وأتمها، وتحصيل ذلك انما يكون بالتعلم (انما العلم بالتعلم) وسؤال أهل الذكر من العلماء (فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) ولا يجوز للمسلم ان يستهين بأمر دينه فيؤدي ما اوجب الله عليه على غير الوجه الصحيح كما بينه وبلغه وأرشد اليه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام كما هي رسالته (لتبين للناس ما نزل اليهم) فقد صلى بأصحابه رضوان الله عليهم وقال (صلوا كما رأيتموني اصلي) وحج بهم ومعهم وقال (خذوا عني مناسككم فلعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا) وأمر من حضر ليبلغ الى من غاب وقال (أ لا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) وهكذا الأمر بالنسبة لكل أركان الاسلام

والزهد في تحصيل العلم بالدين هو حرمان وزهد فيما أرشد اليه الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام الذي قال (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) بمعنى يعلم حكم الله في كل ما يأتيه من تصرفات ليتجنّب ما حرّم الله عليه وياتي ما امره ويستمتع بما أحلّ الله له من الطيبات

*أما شرط القبول فهو الاخلاص لله لأن الله لا يقبل الشريك يقول جلّ من قائل (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (أ لا لله الدين الخالص) ويقول (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل الا ظله في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون ذكر (ورجل لا تدري يمينه ما أنفقت شماله) وهي صدقة السرّ التي لا يعلمها الا الله الذي لا تخفى عليه خافية

فمن كانت تلك حاله اي الاخلاص لله والخوف منه سبحانه وتعالى والرجاء فيما عنده فهذا هو الذي يتقبل الله عمله اما من يراقب الناس ويريد بما يقدمه ثناء الناس وشكرهم فليس له من عمله الا ذلك ولا ينتظر من ربه جزاء ولا ثوابا سيقول له الله (اذهب الى من أشركته بي فليجازيك اليوم) وقد حذرت عديد الاحاديث من ردّ الاعمال على اصحابها، ردّ الصلاة والصيام والزكاة والحجّ وقربات على من قاموا بها صوريا وشكليا (من لم تنهه صلاته فلا صلاة له) اي من لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (وكم من صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش) و (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في تركه طعامه وشرابه) ويقال للحاج من مال فيه حرام او شبهة حرام (لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك) ولا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم والغش والغدر والخيانة الا صلاة وصيام وزكاة وحج وصدقة مستوفية لشرطي: الصواب والاخلاص (ان الله لا يقبل من العمل الا أصوبه وأخلصه)

*وسورة الفاتحة عمود كل ركعة في الصلاة بعد حمد الله ووصفه بكل ما يليق بجلاله وعظمته وبعد تمحيص العبادة وتخصيصها له دون سواه والاستعانة به وهو الذي على كل شيء قدير ويقول للشيء كن فيكون وذلك هو القسم الاول يأتي بعده القسم الثاني (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)وهو دعاء والدعاء مخّ العبادة والداعي موعود بالاجابة (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) (واذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعاني) (أمن يجيب المضطر اذا دعاه) وكيف لا يجيب المولى عبده الواقف بين يديه يناجيه ويتضرع اليه بخشوع وانابة وهو يطلب منه الهداية الى الصراط المستقيم صراط من انعم الله عليهم من عباده الصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين

هنالك يقول الله سبحانه وتعالى لعبده (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) وهل هنالك جائزة أعظم من هذه الجائزة وعطية أكرم من هذه العطية، الهداية الى الصراط المستقيم التي ينال صاحبها من ربه العفو والغفران والرحمة والسعادة في هذه الدار وسكنى الجنان الذين انعم عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن اولئك رفيقا

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم انه هو الغفور الرحيم خطبة الجمعة 23/2/2018 سفران



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.