من هدي الإسلام في رعاية الآباء والأمهات المسنين

من هدي الإسلام في رعاية الآباء والأمهات المسنين


إن الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع والودّ الصادق الخالي من الشوائب من الأسباب الأساسية لاستقرار ذلك المجتمع وازدهاره وتحقيقه لآماله لأجل ذلك يسعى ولاة الأمور وقادة الرأي والتوجيه فرادى وفي نطاق هيآت ومنظمات للتوعية بأهمية التماسك بين أفراد المجتمع بمختلف فئاتهم ومراتيهم الاجتماعية وعلى اختلاف أعمارهم لتتكون بينهم لحمة قوية تجعلهم يتعاونون على السراء والضراء وينطلق مجهود هؤلاء الواعين بأهمية التماسك والترابط والتكامل بين أفراد المجتمع من الأسرة التي هي في الحقيقة والواقع مجتمع مصغر تنعكس تصرفات أفراد ها سلبا وايجابا على المجتمع ككل وهذه الحقيقة الاجتماعية تم الاهتداء اليها والتوصل إلى التسليم بها بعد طول تجربة واستقراء لتاريخ المجتمعات البشرية على مختلف أجناسها وألوانها ومعتقداتها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي حقيقة يسلم بها العقل السليم والتفكير العميق وتسعى إلى تثبيتها والدفع إلى تحقيقها القيم الخلقية والمواثيق الاجتماعية والأديان السماوية والفئات التي يتركب منها المجتمع منها الذكور والإناث ومنها الموسرون وضعاف الحال ومنها الصغار والمسنون ولكل فئة من هذه الفئات قيمها الخاصة المنظمة لحسن العلاقة بينها تدعمها في ذلك نصوص شرعية وحكم وأقوال مأثورة يتم الاستنجاد بها لتعميم الوعي والقناعة لدى من يراد إقناعهم وتوجيههم بضرورة معرفة حدود حقوقهم حتى لا يتجاوزوها وما يطلب منهم من واجبات ينبغي عليهم أن يؤدوها ما داموا مقتنعين بما يقتضيه العيش ضمن مجموعة بشرية معينة ولقد درجت المجتمعات المتحضرة على أن تخصص يوما أو أياما من السنة لتوعية أفرادها بحقوق مختلف فئات المجتمع من ذلك يوم الأم ويوم الطفل ويوم المعوق ويوم العامل إلى غير ذلك من الأيام ومن هذه الأيام الوطنية والدولية يوم المسنين الذي يصادف في شهر أكتوبر من كل عام وهو يوم تتجند فيه طاقات الهيئات والمنظمات وحملة الأقلام وقادة الرأي والتوجيه فضلا عن الهياكل الحكومية المختصة للتوعية بمخاطر تهميش ونسيان عدد لا بأس به من أفراد المجتمع الذين تقدمت بهم السن من الذكور والإناث فتناقص على مرّ الأعوام عطاؤهم لأسرهم وللمجتمع وضعف تدخلهم بحكم ما اعتراهم من ضعف نتيجة شيخوختهم وهرمهم وهذا الوضع الذي يؤول إليه المسنون طبيعي اقتضته سنة الحياة ولا سبيل إلى تغييره وتبديله ذلك انه لكل بداية نهاية حتمية وهي حقيقة ذكر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسنين وكل من تغيرت احوالهم وذلك قبل حصول هذا التغيير حيث يقول عليه الصلاة والسلام (اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل مرضك وغناك قبل فقرك وشبابك قبل هرمك وفراغك قبل شغلك) فالعاقل الكيس هو من لا يغتر بالحياة والصحة والغنى والشباب والفراغ فكل هذه الحالات مؤدية لا محالة إلى الحالات المقابلة لها الا وهي الموت والمرض والفقر والهرم والشغل ولكن من حق من يموت أو يصاب في صحته أو يفتقر أو يهرم أو يمتلئ وقته ان يجد فيمن يحيطون به من الأقارب عند حصول المكروه والمصاب الوقوف إلى جانبه ومواساته ومد يد المساعدة إليه وهي مسؤولية تلقيها على عاتق من لا يزالون في قدرة على العطاء والبذل والإعانة التربية القويمة والأخلاق الرفيعة والتدين الصحيح ذلك ان أحب العباد إلى الله أنفعهم لعباده ومن فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ورحمة من في الأرض موجبة لرحمة من في السماء وبقدر ما يندفع الانسان في مجال البذل في هذا الميدان ميدان جلب الخير للغير بقدر ما يضمن لنفسه تأمينا في عاجل حياته الدنيا ضد كل ما يمكن أن يصيبه من غوائل الدهر فضلا عما ينتظر سالك سبيل فعل الخير من عظيم الأجر وجزيل الثواب في الدار الآخرة عند الوقوف بين يدي الله يوم القيامة للحساب، والمسنون من نساء ورجال في المجتمع هم في الغالب آباء وأمهات لأبناء وبنات يعيشون في المجتمع توجب عليهم القيم الأخلاقية والدينية والتربية الأصيلة أن يكونوا بجانب آبائهم وأمهاتهم في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من أعمارهم فيردوا لهم بعض الجميل الذي أسدوه لما كانوا في ريعان الشباب وأوج العطاء، يحرمون انفسهم لذة الطعام والشراب والنوم والراحة في سبيل ان يوفروا للأبناء والبنات ما به تتحقق راحتهم وسعادتهم وتكتمل قوتهم، وكل الآباء والأمهات مجبولون على هذه التضحية والايثار لفلذات أكبادهم لأجل ذلك ألحت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ضرورة بر الآباء والأمهات حيث يقول جل من قائل (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) الإسراء واعتبر الإسلام عقوق الوالدين وسوء معاشرتهما من أكبر الكبائر الموجبة لغضب الله وشديد نقمته حيث لا يقبل من عاق والديه صرفا ولا عدلا ولا ينظر إليه واعتبره من الآيسين من دخول الجنة فقد دعا جبريل عليه السلام على من أحيا الله له أبويه أو أحدهما ولم يدخل الجنة بعقوقه وتقصيره في حق أبويه وأمن على هذا الدعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحرم الإسلام على الابن والبنت كل صنوف الأذى منهما نحو الأبوين حتى ما يمكن ان يُستهان به عادة (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما) وفي مقابل ذلك فإن خدمة الأبوين وحسن معاشرتهما ومحاولة رد بعض معروفهما من أسباب الإحراز على مرضاة الله سبحانه، إنه باب من أبواب الجهاد حيث قال عليه الصلاة والسلام لمن جاءه يستأذن في الخروج للجهاد بقوله (فيهما فجاهد) (يعني الأبوين) ولو تادب كل الأبناء والبنات بهذه الآداب والأخلاق الكريمة فأحسنوا معاشرة آبائهم وأمهاتهم وأعطوهم ما يستحقون من الرعاية والعناية التي تتجاوز الناحية المادية التي هي ضرورية وأساسية إلى الناحية المعنوية والعاطفية التي يحتاج اليها كل ضعيف، والمسن لا يخفى على أحد ضعفه لخفّ العبء وتضاءلت الحالات المستوجبة لتدخل الهيئات والمنظمات والأجهزة الحكومية المعتنية برعاية المسنين إذ ينحصر جهدها في من فقدوا السند وليس لهم عقب وحتى هؤلاء فإنه لا بد أن يكون لهم في المجتمع أقارب من ذوي الأرحام (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) فالرحم من الرحمان أوكل الله بها ملكا ينادي (اللهم صل من وصلني وأقطع من قطعني) (وصلة الرحم تزيد في العمر) فتباركه وبهذا الاعتبار يتحمل ذوو الأرحام مسؤوليات كبيرة تجاه أقاربهم من المسنين فلا بد ان يعودوا عليهم بجزء من الرعاية والعناية المادية والمعنوية ولقد درج مجتمعنا المتجذر في القيم العربية الإسلامية على هذا النوع من التكافل وشد الأزر وصلة الأرحام وتربت أجيالنا المتعاقبة على هذا الخلق الرضي والمعاملة الانسانية الراقية فكفل الأقارب أقاربهم من الأعمام والعمات والأخوال والخالات يكونون فيما بينهم الأسرة الواحدة المتلاحمة والمتراحمة، تعميقا لهذا التوجه ومضيا في هذا المسلك القويم اتسعت دائرة التكافل والتآزر لتشمل كل مسن ومسنة من أفراد المجتمع رغبة في الحصول على الأجر العظيم وجزيل الثواب وعملا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى إكرام ذي الشيبة الذي يستحي منه الله وملائكته كما دعا إلى توقير الكبير واحترامه وتقديره حيث قال عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا) والتوقير للكبير على عموم لفظ الكبير الذي يشمل كل كبير قريبا كان ام بعيدا أم مسلما كان أو غير مسلم مجال واسع يمكن ان نحشر فيه كل مظاهر العناية والرعاية والتقدير والاحترام للكبير ابتداء بخفض الجناح الواجب للوالدين (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) ولكل من هو في منزلة الوالدين أو قارب منزلتهما وهو خفض للجناح بمعنى اجتناب الترفع والتعالي والتعاظم امامهما فالابن والبنت ينبغي ان يظلا دائما وأبدا في عين الأبوين فرعا لأصل هما الأب والأم ولقد عشنا ولا نزال والحمد لله ممارسات منعشة تنم عن رفيع التربية وقويم الأخلاق في التعامل مع المسنين في الحي والقرية حتى يكاد الصغار عند مرور الكبار أمامهم أو مرورهم أمام الكبار لا يرفعون صوتا ويتركون كثيرا من المباحات احتراما لأولئك الكبار وكان خلق الحياء غالبا على الصغار أمام الكبار و(الحياء خير كله) و(الحياء شعبة من الإيمان) أما مساعدة الكبار على عبور طريق أو حمل أثقال أو الجلوس في مقعد فحدث ولا حرج وذلك لعمري مما تميز به مجتمعنا على سواه من المجتمعات الأخرى التي تفتقر إلى مثل قيمنا وموروثنا الديني والحضاري والأخلاقي ولم نكن نسمع في الأمس القريب عن ابن أهمل أمه أو أباه و ترك القيام بواجب من الواجبات نحوهما أما أن يأخذهما إلى مأوى العجز ليتخلص من أعبائهما فذلك من سابع المستحيلات ومن العار والشنار !! إن الابن يرى في بقاء والديه على قيد الحياة إلى أن يكبر ويصبح قادرا يخدمهما ويرد بعض جميلهما عليه فرصة تجود بها عليه الأقدار عليه أن لا يضيعها، ان الابن يعتقد في وجود الأبوين أو أحدهما أو في وجود أحد المسنين من أقارب أو أباعد معه في منزله بركة كبرى تعم كل من في البيت من زوجة وأبناء وبنات !! ولقد تعلم الأبناء والأحفاد من الآباء والأجداد والأعمام والمسنين عموما دروسا لا تنسى في الفضيلة والخلق الرفيع والتجربة التي تجنب الصغار كثيرا من الهنات والعثرات كما تربت اجيالنا المتعاقبة على عقلية التواصل ونبذ كل أشكال صراع الأجيال الغريبة عنا وعن مجتمعنا العربي الاسلامي وأيقن الجميع بالتجربة وبقراءة كتاب الحياة إضافة إلى عديد النصوص الشرعية المذكرة بأن ما يفعله الأبناء بآبائهم يفعله بعد ذلك بهم أبناؤهم وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي يقول (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) ولم يقف التوقير للكبار المسنين وإجلالهم والقيام بحقوقهم عند حد المسلمين منهم بل تجاوزه الى من كان يعيش في المجتمع الاسلامي من ذميين فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج ذات يوم من المسجد فإذا به يجد ذميا يمدّ يده متسولا فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أمر له براتب من بيت مال المسلمين ثم قال له (ظلمناك أخذنا منك الجزية صغيرا وتركناك كبيرا) هذه الحادثة ليست بالغريبة على المسلمين الذين يدعوهم دينهم إلى الرأفة والرحمة والإحسان بكل ذي كبد حرى فما بالك إذا كانت هذه الكبد الحرى مسلما تقدمت به السن وأصبح في حاجة إلى مدّ يد المساعدة إليه



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.