الإخلاص للدين والأمة يرسخ روح الوطنية
لا أستطيع أبدا أن أتصور مفهوم بر الآباء محصورا في ذلك النوع من التلطف اللفظي والإحسان المادي الذي لا يتجاوز إشباع البطون وإكساء الأجسام لأن مثل هذا البر لا يتميز فيه الإنسان المكرم بالعقل عن كثير من أنواع الدواب الأخرى التي يحدب كبارها على صغارها وترتبط فروعها بأصولها وتحمي أقوياؤها ضعافها بل البر الحقيقي للآباء يتمثل في أشياء أسمى وأعمق من هذا بكثير إذ هو لا يقتصر على أشخاص الوالدين وذواتهم ولا يقف عند حدود تمتيعهم بمتع الحياة ما داموا أحياء وإنما هو يتجاوز ذلك إلى الإخلاص لما أخلصوا له، ولمن أخلصوا له إذا كان ذلك لا يتنافى مع عقيدة صحيحة، أو مصلحة ملتزمة ويتجاوزه أيضا إلى صلة الرحم التي لا توصل إلا بالآباء والأمهات وبالجملة فلا يتحقق مفهوم البرور إلا متى ارتطبت الفروع ببعضها واتصلت بأصولها القريبة والبعيدة اتصال الروح بالروح والعاطفة بالعاطفة والأهداف بالأهداف وبهذا يتحقق مفهوم التعارف بمعناه الواسع أو الضيق: التعارف الذي جعله القرآن غاية من غايات الخلق والتسلسل ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وكأني بهذا التفضيل في الكرامة والتقى يتوجه أول ما يتوجه إلى ما ذكر قبله مباشرة فكان كالمتفرع عنه وهو القضاء على الفوارق المصطنعة وتحقيق الاتصال الروحي والمادي الذي ينشأ عنه حتما التعارف لا بالأسماء والنعوت بل بالمنافع والانسجام وهذا لعمري هو التقى ذاته لأن مثل هذه الأشياء إنما تتحقق لدى أصحاب النفوس الطاهرة والعقول الرشيدة والأعمال السديدة وهؤلاء هم الأتقياء بحق وانى يتسنى لمن يحاول أن يقصر وجوده على ذاته واتصاله على بيته ومعرفته على ما يتصل بحياته القريبة وجهوده على منافع جسمه وحسب، أنى يتسنى لهذا ومن كان على شاكلته أن يقدر معنى التعارف أو أن يشعر بالحاجة إليه، لأنه وان ارتقت أفهامه ومداركه في أنواع الفنون والعلوم الكثيرة ما يزال على جهل مطبق بمعان الاجتماع ومفاهيم الذات البشرية، وكم هم الذين يعلمون الكثير عن غيرهم ويجهلون كل شيء عن أنفسهم بل ويجهلون سر وجودهم، وذلك ما يجعلهم لا ينتفعون النفع الكامل بما تحصلوا عليه من علوم وفنون وكثيرا ما تكون علومهم وفنونهم سبب بلاء يعانونه وحدهم إن كانوا من أهل الانطواء والتهيب أو يعانيه الناس معهم إن كانوا من ذوي الجسارة والطموح. إني أعتقد أنه لا سبب لهذه العقد النفسية ولهذا الشذوذ المقيت إلا ما ينشأ عليه بعض الأطفال في مرحلة الطفولة،وحتى مرحلة الشباب من انطوائية تجعلهم شيئا فشيئا يحسون بالغربة إن كانوا ضعاف الشخصية أو بالأنانية المفرطة اذا كانوا أقوياء النفوس والعقول وفي كلتا الحالتين ينشا الأبناء أقل الناس تعلقا بمفاهيم الجماعة من قومية أو وطنية أو مذهبية وغيرها من الروابط الأسرية والعائلية وتعظم هذه الظاهرة المنحرفة حتى تصل بأصحابها في بعض الحالات والظروف إلى نوع من الوجوم والسهوم كلما ضمهم مجلس مع أقاربهم وبني جلدتهم فلا يبرحهم سهومهم ووجومهم إلا إذا خرجوا من محيطاتهم إلى محيطات أخرى بعيدة عنهم وهكذا يتمادون شيئا فشيئا مع أوهامهم حتى تصل بهم في النهاية إلى نوع من التنكر والاحتقار والكراهية. وليس هناك دواء لهذه العلة التي أصبحت تكتسح العديد من أبنائنا إلا أن نعمق منذ الحداثة إحساسهم بالبيئة والعائلة ونحكم الروابط التي تربطهم بالأمة والقبيلة والجنس ونحرص كل الحرص على جعلهم قبل الرشد لا يأخذون أبدا من مقومات أمة أخرى أكثر مما يأخذون من مقومات أمتهم من تربية وأدب ولغة وتاريخ وفن لأننا إن جعلناهم يشبعون نهمهم الأول من تراث أجنبي عنهم ومتناقض في أغلب الحالات مع تراثهم نكون كأننا انتقلنا بهم إلى وسط يبدل فطرتهم ويحول أفكارهم وأذواقهم تبديلا وتحويلا جذريا فيرون بحكم الجهل والانقطاع ان كل ما هو لآبائهم وجدودهم نقص وان كل ما هو لمدارسهم التي تخرجوا منها كمال وفخر. لا شيء في الدنيا يرسخ معاني الوطنية وينمي غريزة الإخلاص للجنس والدين والأمة أكثر من التشبع بفلسفة الأمة وبأصول عقيدتها وبتاريخ رجالاتها الذين أنجبتهم فلعبوا أدوارا حاسمة في تاريخ تلك الأمة وفي تاريخ الانسانية جمعاء أجل إن ذلك يفتح في أنفس شباب الأمة معاني الاعتزاز والفخر وتجعلهم تلك المعرفة لا يقبلون بسهولة من المغرضين والمتقولين ما يفترونها على أمتهم ورجالاتها من احتقار وغمط للقيم ولا يقبلون أيضا بسهولة بعض الادعاءات الفارغة التي يحاول مزورو التاريخ أن يرفعوا بها شأن من لا يستحق الرفع أو أن يغطوا بها بعض نقط الضعف في الأمة أو الرجال حتى تعيش أجيال كاملة على المغالطة فلا يحصل تفادي الخطر ولا تدارك النقص ولا إصلاح الفساد إن دفع شباب الأمة للتشبع من مقومات وطنه ودراسته العميقة لتاريخ بلاده وفهمه الصحيح لأسرار دينه لخير حصن يحميه من غائلة التنكر والجحود ويجعله مهما بعد واغترب لا يعود إلا ذلك الابن البار الذي يقحم نفسه في بوتقة الجماعة ليكون خلية من الخلايا العاملة وعضوا من الأعضاء النشيطة لا يتنكر لقومه ولا لدينه ولا لوطنه مضيفا إلى أمجاد أمته أمجادا جديدة ومطعما لحضارة أمته بما اغترفه من حضارات الآخرين بعد أن يطبعها بطابع قومه ثم يقدمها لهم شهية مستساغة.