من مقتضيات التوكل تعاطي الأسباب ونبذ الخمول

من مقتضيات التوكل تعاطي الأسباب ونبذ الخمول


ان عمران هذا الكون ودوام الحياة فيه وتحقيق عزة المسلمين وقوتهم وعلو شأنهم في هذه الحياة الدنيا مقصد من مقاصد الاسلام وغاية من غاياته سعى لتحقيقها في حيز الواقع وتركيز التسليم بها في عقول المسلمين، فدنيا المسلمين مزرعة لآخرتهم ومرحلة مؤدية اليها وما انزل الله لهم الدين الا لينظم حياتهم وتجتمع كلمتهم وتتحقق عزتهم وغناهم عمن سواهم، ليست الدنيا في منظار الاسلام ضرة للآخرة ولا عدوة لها، والمسلم في حل من الاختيار الصعب اما الدنيا أو الآخرة، فدين الاسلام يرفض الرهبانية والانقطاع في الزوايا والجبال، والحياة الدنيا التي تسوسها القيم السامية والمثل العليا محراب عبادة يتقرب المسلم في كل أركانها وأرجائها الى ربه بما يأتيه في إطار الشرع من تصرفات، ظاهرها العمل للدنيا الفانية، ذلك هو التصور الفريد الجديد الذي جاء به الاسلام وبشر به الناس وحقق به لهم السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة (ولمن خاف مقام ربه جنتان )الرحمان جاءت مبادئ الاسلام تقول للناس كافة (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) الأعراف، والمسلم وهو يسعى الى ربه وتتعلق همته بالدار الآخرة غير مطالب بأن يعرض عن حياته الدنيا فيتناساها ويهملها (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) القصص، لقد استطاع الاسلام ان يجمع بين الثنائيين الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والعاجل والآجل،والفرد والمجتمع وقد كانت قبل ذلك ولا تزال بعد ذلك في كل المذاهب والنظريات متناقضات لا سبيل الى تآلفها وانسجامها وسيرها في خط واحد ولكن الاسلام الذي جعله الله رحمة للعالمين ونافيا للحرج والضيق عن عباد الله المسلمين ألف بين الدنيا والآخرة وجعلهما يسيران جنبا الى جنب دعت الى ذلك آيات الكتاب العزيز وزاد ذلك بيانا وتفصيلا صاحب الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعلن لأمته (أنه ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا فإن الدنيا بلاغ الى الآخرة ولا تكونوا كلا على الناس) ابن عساكر فالمسلم مدعو بأن يعمل لدنياه كانه يعيش أبدا وان يعمل لآخرته كانه يموت غدا وهكذا اعتبر الاسلام أعمالا تبدو لا علاقة لها بالآخرة ظاهرا من اكبر القربات والطاعات والمكفرات للخطايا والسيئات فالزرع والحرث وعمارة الأرض أعمال ذات فائدة عاجلة ألا وهي تحقيق كفاية المسلمين وتسديد حاجاتهم المعيشية ولكنها إضافة الى كل ذلك يكتب بها لمن يؤديها بإخلاص الأجر العظيم ولقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس) ابن عساكر وهكذا فان الغرس مطلوب من المسلم في كل مراحل حياته صغيرا كان ام كبيرا سيجني ثمرته هو أو سيجنيها غيره ممن يأتي بعده، فالمسلم لا تتطرق الأنانية الى نفسه لأنه سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان أحب عباد الله اليه أنفعهم لعباده) بل يصل الأمر الى قمته ومنتهاه عندما يتطرق الى سمع المسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو كانت الساعة تقوم وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها فله بذلك أجر) انه الأمل العريض الذي لا حد له والحرب التي لا هوادة فيها على اليأس والقنوط والرسول عليه الصلاة والسلام المسلم الأول والنموذج الأمثل والمثل الأعلى الذي ينبغي الاقتداء به لتحقيق مرضاة الله ها هو ذا يعلن لجمع من أصحابه أساؤوا الفهم واعتقدوا ان مرضاة الله عليهم لا تتحقق إلا بطلاق الدنيا والإعراض عنها، قال لهم ولأمته من بعدهم (أنا محمد بن عبد الله غفر لي ربي ما تقدم وتأخر من ذنبي أصوم وأفطر واتزوج النساء وأمشي في الأسواق فمن رغب عن سنتي فليس مني ) بهذه الروح ينبغي ان يستهدي المسلمون في هذا العصر الذي اشتدت فيه عليهم التحديات وتكدست على مجتمعاتهم رواسب التخلف والتقهقر والضعف بعد سنوات طويلة من الاستعمار، ان المسلمين مدعوون الى التمعن والتدبر فيما يدعوهم اليه دينهم وما يرومون تحقيقه من قوة وتقدم وازدهار وانهم لواجدون في تعاليم الاسلام وتشريعاته ما يحقق لهم هذه الآمال شريطة ان يقرؤوها قراءة واعية مخلصة ذلك ان خيرية امة الاسلام وعزة المؤمنين وشهادتهم على الناس أجمعين لا يمكن ان يحققها اليوم في هذا العالم الذي تتقاسمه الأطماع وتسيطر عليه الأحلاف وتغلب عليه نزعة الاستغلال والامتصاص والامتهان لن يحقق للمسلمين ما يصبون اليه من آمال إلا فهم لروح الاسلام واستفادة وتوظيف لقيمه السامية ومثله النبيلة من اجل تحريك عجلة التنمية والنهوض بالمسلمين أفرادا ومجتمعات فليس من الإسلام ان يقبع المسلم في ركن ويسأل ربه ان يؤتيه مسألته فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وليس من الاسلام ان لا يأخذ المسلم بالأسباب فيتعاطاها بدعوى التوكل على الله !! والحال ان المسلم مدعو بأن يعقل ناقته ويتوكل. أما إذا أهمل المسلم الأخذ بأسباب القوة والعزة والازدهار فإن ذلك تواكل ما انزل الله به من سلطان وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين حتى لا يقعوا فريسة لمثل هذه الأفهام الخاطئة ولفت أنظارهم الى ما في الكون حولهم من كائنات غير عاقلة ولكنها مدركة ان الرزق لا بد ان يكون مسبوقا بسعي وهذا السعي مشروع بل مطلوب فلينظر المسلم حوله في هذا الكون ليرى كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم توكلا حقيقيا (لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كالطير تغدو خماصا وتعدو بطانا) لقد أعد الاسلام لمشكلة الفقر والضعف والحاجة حلولا عديدة وهي حلول يهتدي اليها كل عاقل بل عملت بها امم ليس لها قيم الاسلام ومثله وتشريعاته فحققت قفزات عالية وعملاقة في ميادين العطاء الاقتصادي وهي ما حققت ذلك رغم بدائية عقائدها وبساطة مثلها الا لأنها أخذت بالأسباب وشمرت على السواعد وضاعفت من المجهودات وجعلت لها هدفا تروم بلوغه فبلغته وهذا الهدف هو تحقيق كفاية شعوبها وغناها عن سواها في قوتها وحاجاتها وحتى كمالياتها وان المرء ليعجب من أحوال المسلمين أفرادا وجماعات كيف لا يوظفون ما عندهم من قيم ومثل وتشريعات تدفع بالناس دفعا الى البذل والعطاء والاجتهاد في كل ما يحقق للمسلمين الغزة وعلو الشأن في كل ميادين الحياة فالانسان عندما يلتفت الى ما يزخر به الكتاب العزيز والسنة الطاهرة من نصوص ودعوات ملحة للعمل والجد والكد ثم لا يرى أثرا يذكر في سلوك المسلمين في الحقول والمزارع وفي المعامل والمصانع وفي مختلف الإدارات والوظائف يعجب الانسان لذلك شديد العجب ويستغرب كيف يوفق المسلم بين اسلامه الذي يدعوه الى العمل المخلص والجاد والى البذل ويعده على ذلك بعظيم الأجر والثواب ثم يتقاعس المسلم ويتكاسل ويغش ويغالط ألا يجد المسلم العاقل في هذا التصرف تناقضا وتضاربا وانحرافا مشينا عن جوهر الاسلام وروحه؟ ! ان العمل في الاسلام عبادة لا تساويها أي عبادة أخرى مما سوى الفرائض والأركان باشر العمل الأنبياء والرسل عليهم السلام وهم صفوة خلق الله ولو كان فيه ما يخدش مروءتهم وفضلهم لما باشروه فقد أخرج البخاري في صحيحه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيا إلا ورعى الغنم قالوا: وانت يا رسول الله؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) البخاري وسيدنا دواد عليه السلام كان زرادا يصنع الدروع وكان آدم حراثا وكان نوح نجارا وكان ادريس خياطا وكان موسى راعيا فهل يستكنف بعد ذلك مسلم حقيقي عن العمل والكد وبذل الجهد والاستغناء عن الطلب والمساهمة في تحقيق ازدهار المسلمين وتقدمهم؟ ان الاسلام يربي المسلم على التعفف والاستغناء ولا يقبل منه ان يتكفف الناس ويتوسل على موائدهم ويقف عند أبوابهم سائلا حاجاته اللهم الا أن يكون عاجزا قاصرا عن العمل فالله تبارك وتعالى يعلن لكل عباده ضمان الرزق حيث يقول جل من قائل ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) بثه الله في الكون الواسع ودعا المسلم الىى البحث عنه والجد في طلبه (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور) سورة الملك فالضرب في الأرض والابتغاء من فضل الله مما دعا اليه الاسلام وأكد عليه بعد أداء ما فرض الله على المسلم (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) وأفضل الطعام وأطيبه ما يقتنيه المسلم من عمل يقوم به بإخلاص يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما اكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) البخاري وحتى اذا لم يجد المسلم عملا في موطنه وبلاده فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بالغنى ان هو هاجر وسافر طلبا للرزق الحلال (سافروا تستغنوا) الطبراني وخير للمسلم أن يأتيه الليل وهو كال من عمل يومه من أن يأتيه الليل وهو قاعد متاكسل يسأل الناس من فضلهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبشرا العاملين المنهكين في سبيل سد رمقهم والقيام على شؤون عيالهم (ان من الذنوب ما لا يغفره الا السعي في طلب الرزق) الشيخان وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم رجلا فوجد في يده أثر عمل فقال (هذه يد يحبها الله ورسوله) واخبر عليه الصلاة والسلام انه أول من يدخل الجنة وتسابقه في الدخول الى الجنة ويسابق كتفها كتف رسول الله امرأة عسفاء الخدين وهي كل امرأة يتوفى عنها زوجها ويترك لها أبناء فتكفلهم وترعاهم وتقوم على شؤونهم ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعطاء الزكاة والصدقة للقادرين على العمل والبذل والعطاء لأننا ان أعطيناهم ربينا في نفوسهم روح الدعة والاسترخاء والاعتماد على الغير وهذا ما لا يريده الاسلام ولا يقبله من المسلم يقول عليه الصلاة والسلام (لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) أحمد أبو داود النسائي ان الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي وذو المرة هو القوي السوي السليم ونبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم الى ان المسلم القوي خير من المسلم الضعيف وان اليد العليا خير من اليد السفلى وعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد فيه شابا يتعبد قال: من يعول هذا قالوا: أخوه قال: اخوه أفضل منه وعندما تمنى الصحابة ان تكون قوة الشاب المار أمامهم في سبيل الله قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان كان خرج في سبيل قوت والديه فهو في سبيل الله وان خرج في سبيل ان يكفي نفسه سؤال الناس فهو في سبيل الله ويخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن الطريق الأمثل لكفاية الحاجة فيدعو المسلم الى أن يأخذ حبله ثم يغدو الى الجبل فيحتطب فيبيع ويأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس البخاري ومسلم والنسائي وسؤال الناس وتسولهم معرة لا تليق بالمسلم العزيز الأبي والمؤمن القوي الإيمان وكيف يقبل المسلم على التسول وهو يسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) البخاري ومسلم وقوله عليه الصلاة والسلام (من يسأل مسألة وهو عنها في غنى كان شيئا في وجهه يوم القيامة) أحمد ولا يفتح عبد باب مسألة الا فتح الله عليه باب فقر أحمد ولو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد الى أحد سأله شيئا ومن سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقلل أو ليستكثر فإذا انصرف المسلم عن المسألة وطلب الناس واندفع نحو العمل يحقق به مرضاة ربه وقضاء حاجاته ومطالبه فينبغي عليه ان يخلص في العمل الذي أوكل اليه فهو عقد بين طرفين لا بد من الوفاء به كاملا غير منقوص (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة والعمل أمانة ولا بد من أداء الأمانات (ان الله يأمركم بأن تؤدوا الأمانات الى أهلها) النساء والغش والخيانة ليسا من خلق المسلم (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) الأنفال فالمسلم لا يبخس أشياء الناس ولا يطفف ولا يغش ولا يكون عمله الا صالحا متقنا (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ) الكهف والمسلم متشبه بربه الذي أتقن كل شيء انه خبير بما تفعلون يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غش فليس منا) وان الله يحب من العامل اذا عمل ان يحسن ولا يكون محسنا اذا هو غش وزور وتحيل وطفف وأقسم بالأيمان المغلظة، ولا يكون محسنا ان هو غالط ونال أجرا على عمل لم يقدمه ولم يتقنه ولم يخلص فيه والله تبارك وتعالى ( لا يقبل من العمل الا ما كان خالصا لوجه الله) وكيف يتجاسر مسلم على إدخال درهم واحد من الحرام الى جيبه أو يطعم منه نفسه و عياله أيريد أن يحبط عمله؟ أيريد ان يكون مثل ذلك الأشعث الأغبر الذي يطيل السفر ويرفع يديه الى السماء قائلا يا رب ، يارب انى يستجاب له وماكله من الحرام ومشربه من الحرام وقد غذي من الحرام فالله طيب لا يقبل الا طيبا وان لحما نبت من الحرام النار أولى به وان المرء ليلقي في بطنه اللقمة الحرام فيبقى أربعين يوما غير مستجاب الدعوة والمسلم إذا أراد أن تستجاب دعواته فليطب مطعمه واذا كانت هذه بعض واجبات العامل في العمل الذي يقوم به فإن له حقوقا ينبغي ان ينالها ليستمر عطاؤه فلا يكلف فوق طاقته ولا بدّ أن يعطى اجره كاملا غير منقوص يقول عليه الصلاة والسلام (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ويتوعد الله تبارك وتعالى من يأكل أجر مستخدمه حيث يقول الله تبارك وتعالى( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا ولم يوفه أجره)



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.