من شروح موطا الإمام مالك: الإمام جلال الدين السيوطي وشرحه للموطا (تنوير الحوالك)

من شروح موطا الإمام مالك: الإمام جلال الدين السيوطي وشرحه للموطا (تنوير الحوالك)


يسلم كل من عاصر الإمام جلال الدين السيوطي ومن أتى بعده بسعة علمه و تبحره و كثرة تآليفه . هذه التأليف التي شملت كل فن و شارك بها صاحبها في كل ميدان من ميادين العلوم و لقد رجا الإمام السيوطي أن يكون مجدد القرن التاسع و ذلك في منظومته التي ضمنها أسماء من سبقوه في القرون الخالية و مطلع هذه المنظومة هو: الحمد لله العظيم المنة الواهب الفضل لأهل السنة ويذكر بعد ذلك أسماء المجد دين و المصلحين و المجتهدين ممن أجمعت على إمامتهم الأمة الإسلامية. و يدعو الله أن يكون احدهم وقد رجوت أنني المجدد ففيها فضل الله ليس يجحد و لئن سلم له البعض ببلوغ هذه المرتبة و إدراك هذا المقام فان البعض الأخر نازعه فيها و ذلك أمر طبيعي بين المتنافسين من العلماء. غير أن الجميع يسلم لجلال الدين السيوطي بالعلم الغزير و الإطلاع الواسع و التأليف المفيدة العديدة التي زادت على الخمسمائة و سنحاول استجلاء جوانب شخصية هذا العلم البارز و الفقيه البارع والمحدث الذي بلغ درجة الحافظ. اسمه و نسبه : جلال الدين عبد الرحمان بن كمال الدين أبي بكر بن ناصر الدين بن محمد سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناصر الدين محمد بن سيف الدين خضر ابن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الخضري . و السيوطي نسبة إلى اسيوط قرية من القرى مصر توفي ابوه وهو لا يزال صغيرا فنشا يتيما . توجه إلى القران الكريم منذ نعومة أظفاره فحفظه و هو لم يتجاوز الثامنة من عمره و بذلك تمكن من ناصية العربية و بيانها و أساليبها ثم حفظ عمدة الأحكام و منهاج النووي و ألفية ابن مالك و منهاج البيضاوي و هي أمهات في ميادين الفقه عبادة و معاملة و الأصول و الأحكام و قواعد اللغة . إن السيوطي عمل منذ نعومة أظفاره بالمثل القائل : احفظ فكل حافظ أمام و من حفظ حجة على من لم يحفظ . و من احتوى في صدره هذه العلوم صار ملجأ الناس و ملاذهم مهما كان صغير السن حديث العهد. و من حسن حظ السيوطي أن عاصر مجموعة من العلماء الإعلام فتلقى منهم و تتلمذ عليهم و تمكن مما عندهم إلى أن شهدوا له بالإمامة و أجاوزه . شيوخه: لازم السيوطي العديد من العلماء كلا فيما اشتهر به و تبحر فيه لا يسمع بعالم في مجال من المجالات الا سعى إليه و طلب منه و تلقى عنه و إذ وجد العلماء تلاميذ راغبين جادين عطفوا عليهم و سعوا إلى إفادتهم بكل جهد يملكونه . و ممن اخذ عنهم : شيخ الإسلام علم الدين صالح البلقيني اخذ عنه الفقه و لازمه إلى أن مات . كما اخذ الفقه و شيئا من تفسير البيضاوي عن شيخ الإسلام شرف الدين أبي بكر بن يحي المناوي . و هما من خيرة وجلة علماء عصره إليهما تنتهي الرئاسة العلمية و مشيخه الإسلام في الديار المصرية . و في الحديث و العربية لازم الإمام العلامة محي الدين محمد بن سليمان ابن مسعد بن مسعود الحنفي. أما الفرائض و الحساب و الجبر و المقابلة فقد كان شيخه فيها شهاب الدين ابن علي بن أبي بكر الشافعي. و اخذ عن العلامة شمس الدين محمد بن موسى الحنفي و حضر دروس العلامة تقي الدين بن أبي بكر الحصكفي و العلامة شمس الدين محمد ابن احمد الباني . و تعلم الميقات على العلامة مجد الدين إسماعيل بن السماع. و تلقى عن غير هؤلاء من علماء مصر و القادمين عليها و أجازه عدد كبير منهم و شهدوا له بالعلم و القدرة على تأليف و الكتابة. شهادات العلماء فيه : قال عنه ابن العماد و الشعراني: كان اعلم زمانه بعلم الحديث و فنونه: رجالا و غريبا و متنا و سندا و استنباط الأحكام. قال السيوطي عن نفسه : انه يحفظ مائتي ألف حديث و قال : ولو و جدت أكثر لحفظته . و قال عنه الحافظ محمد عبد الحي الكتاني: هذا الرجل كان نادرة من نوادر الإسلام في القرون الأخيرة: حفظا و إطلاعا و مشاركة و كثرة تأليف. أما صاحب الفكر السامي فهو يصفه بقوله : الفقيه الحافظ المحدث ذو الباع الطويل في العلوم لا سيما العربية له التواليف الكثيرة قد بلغت ستمائة بين مطول في أسفار و مختصر في ورقتين و لئن شهد له بالعلم الغزير اغلب العلماء الذين جاؤوا بعده فان البعض ممن عاصروه حسدوه و ناوأه خصوصا عندما ادعى مرتبة الاجتهاد التي كان بها جديرا و أهلا ، و لكن كل ذي نعمة محسود يمكننا أن نشهد له بسعة العلم و غزارته إذا اطلعنا مجرد الإطلاع على عناوين الكتب التي ألفها و المواضيع التي كتب فيها . تأليفه: لما كانت هذه التأليف حسب بعض الأقوال تجاوزت الخمسائية فانه يتعذر علينا ذكرها فقد ضمن بعضهم مؤلفات السيوطي استقصاء و حصرا احد الباحثين المعاصرين ، و لكن عدم القدرة على الاستقصاء لا تمنع من ذكر بعض ما أمكن حصره في فنون مختلفة: كتاب تكملة تفسير جلال الدين السيوطي و جلال الدين المحلي و هو تفسير الجلالين نسبة إلى جلال الدين السيوطي و جلال الدين المحلي و هو تفسير جيد و مفيد يغني صاحبه عن العودة إلى الأمهات عند تعذر ذلك خصوصا و نهجه يعتمد على المأثور و المعقول و هو من أكثر كتب التفسير تداولا بين ايدى الناس و هو مطبوع . كتاب الدار المنثور في التفسير بالمأثور : و هو كتاب جليل يرتقى إلى درجة تفسير ابن جرير الطبري جمع فيه جلال الدين السيوطي كل اثر يفيد و يعين على تفهم معاني القران الكريم و هو مطبوع . كتاب الإكليل في استنباط التنزيل. كتاب الإتقان في علوم القرآن و هو مدخل عظيم للقران الكريم اعتنى فيه جلال الدين السيوطي بكتاب الله من مختلف الجوانب و النواحي حيث تتبع مراحله تنزلا و حفظا و تدوينا و جمعا و اعجاما و قراءات و تفسيرا ، و هو من أتقن كتب جلال الدين السيوطي مطبوع و متداول بين الناس .أما في الحديث فلم تكن تأليفه اقل من تأليفه في القران. كتاب كشف المغطى في شرح الموطأ و هو شرحه الكبير لموطأ الإمام مالك بن انس . كتاب تنوير الجوالك في شرح موطأ الإمام مالك و هو الذي سنتحدث عنه بالتفصيل في فصل أخر من هذا البحث و هو مطبوع . إسعاف المبطئ برجال الموطأ و هو كما يقول عنه السيوطي تأليف لطيف في تراجم الرواة المذكورين في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه مهذب محرر يفوق الكتب المؤلفة في ذلك لمن تبصر رتبه حسب حروف المعجم مبتدأ بمن اسمه إبراهيم. و له التوشيح على الجامع الصحيح للإمام البخاري. الديباج على صحيح مسلم . مرقاة الصعود على سنن أبي داود. و زهرة الربي على سنن المجتبى و هي سنن النسائي. و مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة. و الجامع الصغير و الجامع الكبير إلى غير ذلك من الكتب القيمة و التأليف المفيدة في كل ميادين العلوم و المعرفة لم يترك فنا إلا وخصه بالتأليف.و لاشك أن السيوطي لم يكن في نفس الدرجة في كل ما ألف بل اختلف مستوى ما قدمه و حبره و لكنه أفاد و أن أعاد و كرر في بعض الأحيان . و لا ينكر احد تبحر السيوطي و سعة إطلاعه و مشاركته في كل علوم عصره فقد كان موسوعيا بارك الله له في عمره فأفاد أمته و خدم دينه و حافظ على سنة نبية صلى الله عليه و سلم و لقي ربه يرجو الجزاء و المغفرة . كانت وفاته ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادي الأولى سنة إحدى عشر و تسعمائة 911 ه عن سن تناهز الثانية و الستين قضاها في طاعة الله والتقرب إليه بطلب العلم و نشره . جزاه الله عن أمته بأحسن ما يجازي به العاملين الصادقين المخلصين. تنوير الجوالك: ليس هذا كما أسلفنا الشرح الوحيد الذي شرح له السيوطي كتاب الموطأ بل أن له شرحا أخر أوسع غير أن المطبوع و الموجود بين أيدينا هو تنوير الحوالك و هو شرح مختصر لموطأ الإمام مالك يفيد من يريد و يغني عن المطولات ، خصوصا و أن السيوطي قد جمع فيه زيده ما قاله السابقون حول أحاديث الموطأ فلا غرابة إذا وجدناه يكثر من النقل عن الباجي و ابن عبد البر و ابن حجز و غير هؤلاء من علماء الإعلام . و قبل إن نقدم نموذجا من هذا الشرح نترك السيوطي يحدثنا بنفسه عن الطريقة التي سيسلكها و المنهج الذي سيتبعه في شرحه للموطأ . يقول : ( هذا تعليق لطيف على موطأ الإمام مالك بن انس رضي الله عنه على نمط ما علقته على صحيح البخاري المسمى التو شيح و ما علقته على صحيح مسلم المسمى بالديباج واوسع منهما قليلا لخصته من شرحي الأكبر الذي جمع فأوعى. و من كلام السيوطي نفهم انه آلى على نفسه أن يشرح الصحاح و يقربها من الناس و يحل اشكالاتها و غوامضها و هو عمل منه جليل و سعي مشكور كما نعلم أن تنوير الحوالك هو أكثر اتساعا من بقية التعاليق و لكنه مختصر مأخوذ من شرحه الموسع لموطأ الإمام مالك و الذي جمع و أوعى حسب قوله . ثم يقدم السيوطي للشرح بمقدمة مفيدة تحدث فيها عن الإمام مالك و ذكرا لبعض من أخباره و شهادات العلماء فيه، ذاكرا نسبه و أوصافه الخلقية و الخلقية و شهادات كبار العلماء فيه و سعة علمه و قوة حفظه وصحة روايته . ثم تحدث عن تدوين السنة و المراحل التي مرت بها و الأطوار التي شهدتها و الجهود الكبيرة التي بذلها سلف الأمة الصالح في سبيل المحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الدوافع إلى ذلك و يورد السيوطي في هذه المقدمة أبياتا من الشعر تشيد بمالك و الموطأ و تذكر ما فيه من العلوم و تختم بذكر عناية الأمة الإسلامية به ضبطا و رواية و حفظا و نشرا و شرحا و تبينا لاحكامه كما ذكر أهم رواياته . نموذج لشرح السيوطي : (ما جاء في صلاة الليل) : حدثني يحي عن مالك عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن رجل عنده انه اخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب الله له اجر صلاته و كان نومه عليه صدقة . ( عن سعيد بن جبير عن رجل عنده رضا ) قال ابن عبد البر قيل انه الأسود بن يزيد النخعي فقد أخرجه النسائي من طريق أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن عائشة به و لم يذكر بينهما احدا وقد ورد مثل حديث عائشة هذا من حديث أبي الدر داء أخرجه البزار . هكذا يشبع السيوطي السند درسا بالاعتماد على ما قاله علماء الرجال و الأسانيد حتى يطمئن القارئ للحديث ثم يقبل على الشروح فيقول قال الباجي هو على وجهين أحدهما أن يذهب به النوم فلا يستيقظ و الثاني أن يستيقظ ويمنعه غلبة النوم من الصلاة فهذا حكمه أن ينام حتى يذهب عنه مانع النوم ( إلا كتب له اجر صلاته ) قال الباجي يريد التي اعتادها و قال و يحتمل دلك عندي وجوها احدها أن يكون لها أجرها غير مضاعف و لو عملها لكان له أجرها مضاعفا لأنه لا خلاف أن الذي يصلي أكمل حالا ، ويحتمل أن يريد أن له اجر نيته و يحتمل أن يكون له اجر من تمنى أن يصلى مثل تلك الصلاة و لعله أراد اجر تاسفه على ما فاته منها انتهى .و قال ابن عبد البر الحديث دليل على أن المرء يجازى على ما نوى من الخير و إن لم يصل كما لو عمله و أن النية يعطى عليها كالذي يعطى على العمل إذ أحيل بينه و بين ذلك العمل بنوم أو نسيان أو غير ذلك من وجوه الموانع فيكتب له اجر ذلك العمل و إن لم يعمله فضلا من الله و نعمة) و هكذا على هذا النسق من التحقيق و التدقيق و الإتيان بالغريب المفيد يشرح السيوطي أحاديث الموطأ. هو حسبما يسمح به المقام يطول و يتوسع من شرح الأحاديث خصوصا ذات المسائل الخلافية و القضايا الهامة مستفيدا مما قاله السابقون مكثرا من الاستدلال بأقوال المالكية و بصفة خاصة الباجي و ابن عبد البر وابن العربي و غير هؤلاء. و خلاصة القول أن تنوير الحوالك رغم انه تعليق إلا أن فائدته جمة و نفعه كبير.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.