هدي الإسلام في العناية الصحيّة بالأجساد ورعايتها

هدي الإسلام في العناية الصحيّة بالأجساد ورعايتها


يحظى جسد الانسان في تعاليم الإسلام بعناية كبيرة باعتباره الوعاء الذي يضمّ روحه وعقله، وسلامتهما من سلامة الجسد. وقد اعتبرت المحافظة على الأبدان إحدى الكليات الخمس وقد بلغ الأمر بالإسلام إلى جعل المحافظة على الأبدان مقدمة على المحافظة على الأديان ولأجل ذلك اعتبر رفع الحرج عن المسلم أحد الخصائص التي تميّز بها الاسلام على بقية الشرائع والأديان وقد نصت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد الفقهية من مثل قوله جلّ من قائل (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحجّ الآية78. وقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العُسر) البقرة الآية 185 وقوله عليه الصلاة والسلام (لا ضرر ولا ضرار) وقوله (إن لنفسك عليك حقّا) وقد استنبط الفقهاء من روح هذه الآيات والأحاديث وغيرها قواعد فقهية كقولهم (الضرر يزال) و(الضرورات تُبيح المحظورات) والناظر بتفحّص وتمعن فيما أمر الله به عباده وما نهاهم عنه يلاحظ أن لها دورا مزدوجا إذ تتحقق بالأوامر والنواهي للمسلم غايتان: أولاهما القيام بواجب الطاعة والعبودية لله سبحانه وتعالى إذ لأجل ذلك خلقه وخلق الجنّ حيث يقول جلّ من قائل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطعمون) الذاريات الآية56 وثانيهما دفع الضرر عنه وجلب المصلحة له، فالله سُبحانه وتعالى في غنى مطلق عن عباده، إنه قائم بذاته لا تزيد في ملكه طاعات المطيعين كما لا تنقص مما عنده إساءات المسيئين ولكنها أعمال العباد يُحصيها عليهم فإن هم وجدوا خيرا فليحمدوا الله وإن وجدوا غير ذلك لا يلومن إلا أنفسهم. ولسنا من أولئك الذين يتمحلون ويفرغون الأوامر والنواهي من مضامينها ومقاصدها الروحية التعبدية التي شرعت من أجلها أساسا ولكننا أيضا لسنا من أولئك الذين يُنكرون ما يكاد يُجمع عليه الملاحظون بدقة أو يتوصّل إليه المختصون عن خبرة وموضوعية وهم أهل الذكر من تطابق يكاد يكون كليا بين ما يتوصل إليه العلم الصحيح وما دعا إليه الاسلام المُسلمين أو ما نهاهم عنه مما سماه الإسلام أدقّ تسمية حين اعتبره الخبائث والفواحش. وكم كان فقهاؤنا الأوائل على صواب حين قالوا: (حيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله) فالتطابق بين الشرع والمصلحة الحقيقية واضح جلي لا يحتاج إلى بُرهان ودليل وهذا التطابق هو الذي دفع العديد من ذوي الفطر الطاهرة النقية إلى اعتناق الإسلام والدخول فيه أو على الأقلّ الإدلاء بواجب الشهادة الموضوعية المُنصفة للاسلام بواقعيّته ومراعاته للفطرة. ومن الميادين والاختصاصات التي شهدت في العصر الحديث المزيد من التلاحم والتطابق مع هدي الاسلام ميدان الطب سواء كان في مجال الوقاية أو في مجال العلاج. ولا نريد أن نذهب إلى بعيد فنتحدث عن مجال جديد من مجالات الإعجاز القرآني والنبوي الا وهو الإعجاز الطبي فذلك مجال يتسع فيه الكلام وأهل الذكر من الأطباء أجدر ببيانه للناس ولقد بادر إلى ذلك البعض منهم من المسلمين وحتى من غير المسلمين و شهدت السنوات الماضية انعقاد مؤتمرات وندوات هنا وهناك جمعت إلى جانب علماء الدين المختصين في علوم القرآن والسنة أطباء مختصين وقد تأسست لرعاية هذا الصنف من البحوث الدقيقة هيئة عالمية للإعجاز القرآني والسني تتخذ من مكة المكرمة مقرا لها وتعتبر من أنشط الأجهزة المنبثقة عن رابطة العالم الإسلامي. والأطباء يجمعون بأن السلامة البدنية تتحقق للانسان بنسبة عالية بتوخي الوقاية التي هي خير من العلاج كما يقول المثل السائر، إذ بالوقاية تضمن السلامة في حين ان العلاج ما هو في النهاية إلا مجهود يبذل في سبيل إعادة الصحة والسلامة للجسد الذين فقدهما، والإسلام هو دين الأخذ بالأسباب واحترام النواميس التي بثها الله في الكون ولا يسمح الإسلام للمسلم أن يتعلل بالقدر أو يدعي انه متوكل على الله فيترك الأخذ بالأسباب فذلك فهم خاطئ لا يقره الإسلام فمثلما ان العلم بالتعلم وتحصيل الرزق بالسعي في طلبه حيث يقول عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم) ويقول (ولو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كالطير تغدو خماصا وتعود بطانا) فإن الشفاء من الأمراض إنما يكون بالتداوي وما خلق الله داء إلا خلق له دواء ولا يتنافى هذا مع ايمان المسلم بالقضاء والقدر والأجل الذي لا يمكن أن يتأخر أو يتقدم فكل من القضاء والقدر والأجل مما غيبه الله علينا وإنما أمرنا في الإسلام أن نعمل ونحكم حسب الظاهر وأن لا نتكلف فندخل في علم الله وما خص به نفسه سبحانه وتعالى. ومثلما انه حرام على المسلم قتل نفسه فإنه حرام عليه إلحاق أي ضرر بها أو تعريضها إلى التهلكة سواء باستهلاك (أكلا وشربا) ما فيه ضرر ومما هو فيه في غالب الأحيان مما حرمه الله على عباده المسلمين (كالخمر ولحم الخنزير والدم والميتة...) أو بتجاوز الحد المعقول في استهلاك ما أباحه الله لعباده من مأكولات ومشروبات والتي عبر عنها الشرع الحنيف بالطيبات والتي لا حد لها ولا حصر فالآية الكريمة تأمر المسلم بالأكل والشرب وتنهاه عن الإسراف (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) الأعراف 31 وقد انتهى الأطباء المختصون إلى ان في التقليل أكثر ما يمكن ضمان للسلامة وقد سبق إلى توجيه المسلم إلى هذا السلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للماء وثلث للنفس) وهذا الحديث يلتقي مع الحكمة المأثورة (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء) وقد زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى عدم الجشع وترشيد الاستهلاك توضيحا حين قال (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) وهديه عليه الصلاة والسلام في الأكل والشرب معين لا ينضب لتحقيق السلامة البدنية للمسلم وقد احتوت هذا الهدي مصنفات السيرة إلى جانب كتب الفقه والحديث. ويمكن أن نتجاوز هذا الباب الواسع إلى باب آخر اعتنى به الإسلام أشد عناية وهو يدخل في مجال الوقاية ألا وهو باب النظافة التي ثبت اليوم دورها الكبير في التحصين ضد كل الأمراض الجرثومية فالماء الذي هو أصل الحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) الأنبياء الآية30 جعله الله طاهرا طهورا (أي مطهرا لما سواه)، حرم الإسلام على المسلم تلويثه بتبول أو قضاء حاجة أو غيرها ودعاه إلى الحفاظ عليه وعدم تبذيره أو الإسراف في استعماله (حتى في الوضوء) وذلك باعتباره نعمة من النعم التي أنعم بها الله على الانسان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تغطية الإناء وشد وثاق القربة وغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب (أو أي مادة مستحدثة قاضية على الجراثيم) كما دعا رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام المسلم إلى الوضوء (بمعنى غسل اليدين) عند التقدم لتناول الطعام، ودعا المسلم إلى غسل يديه قبل إدخالهما في إناء الوضوء وأمره بأن يبادر بغسل اليدين حال الاستيقاظ من النوم فإنه لا يدري وهو نائم إلى أين وصلت اليدان. ولا تخفى على أحد أهمية الوضوء ودوره في تحقيق النظافة وبالخصوص للأعضاء الأكثر تعرضا للجراثيم (وهذا الوضوء يتكرر أحيانا خمس مرات في اليوم والليلة) وهو وضوء مبني على تنظيف لأجزاء خفية من جسم الانسان هي الأكثر تعرضا لتوالد الجراثيم وتكاثرها (ونقصد بذلك اشتراط الاستنجاء عند قضاء الحاجة الكبرى أو الصغرى) ولا يخفى ما في الغسل الذي هو سنة مرة في الأسبوع (يوم الجمعة) وواجب كلما طرأ مفسد من مفسدات الطهارة الكبرى (كالمباشرة الجنسية والحيض والنفاس والاحتلام) وقد شدد الإسلام النكير وحرم على المسلم والمسلمة المباشرة الجنسية عند العادة الشهرية أو النفاس لما في ذلك من الأذى بالمفهوم العام الشامل للكلمة. ولم يقف الإسلام عند هذا الحد بل دعا المسلم إلى النظافة في الملبس والمكان الذي فيه يتعبد إذ لا تجوز الصلاة في ثوب فيه نجاسة كما لا تجوز في مكان فيه نجاسة. والمسلم مدعو إلى النظافة والتنظيف في كل احواله وأوقاته وهو مدعو إلى أن يكون جميلا في مظهر ه طيبا في رائحته وهو إن تغيرت رائحته مدعو إلى أن يهجر بيت الله حتى تطيب هذه الرائحة إذ حرم على المسلم حتى مجرد ايذاء غيره برائحته فما بالك اذا تسبب لغيره في أذى مادي وتسرب جراثيم من بدنه أو ملبسه أو أي شيء يصدر منه فإن ذلك في دين الاسلام عدوان على غيره وانحراف عن الخاصية التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في كل أحواله إذ المسلم هو من سلم الناس من لسانه ويده. والصحة العامة والسلامة الشاملة لا تتحقق في أي مجتمع إلا إذا كان أفراده ملتزمين بقواعد حفظ الصحة وإصابة فرد أو مجموعة مهما كانت قليلة بمرض يمكن أن يسري إلى البقية عن طريق العدوى هو إلحاق للضرر بالغير وذلك حرام في دين الاسلام وقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم المنظمات الصحية الدولية في الدعوة إلى الحجر الصحي وذلك عندما يكون الوباء بأرض فلا ينبغي أن ندخلها ولا أن نخرج منها. فالمسلم مدني بطبعه وبالتزامه بهدي دينه لا يتسبب في الإضرار بغيره ولا يتأخر عن جلب الخير وتحقيق المصلحة لنفسه ولغيره وهو لا يكون مسلما حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. والله تبارك وتعالى يحب لنا الخير ويأمرنا بأن نحب الخير لأنفسنا ونسعى لتحقيقه لها كما أنه سبحانه وتعالى يأمرنا بأن نجنب أنفسنا الضرر وشريعتنا الغراء تدفعنا إلى الأخذ بالأسباب واستثمار واستغلال كل ما توصلت إليه العلوم والمعارف مما يمكن أن يحقق للانسان المزيد من الحصانة والوقاية ضد كل ما يمكن أن يهاجم الجسد من الجراثيم والأوبئة. والحمد لله لقد تقدمت البشرية أشواطا في مجال التخفيف على المصابين والمبتلين بالعلل والأمراض التي كانت بالأمس القريب فتاكة تأتي على مئات الآلاف من الأنفس البشرية والمنظمات الصحية العالمية تتباهى اليوم بالقضاء كليا على أوبئة مثل الجدري والسل وقد كانا في ما مضى من السنين أشبه ما يكون اليوم بداء فقدان المناعة وداء السرطان عافانا الله وقد تغلبت البشرية على أوبئة فتّاكة أصبحت اليوم في حكم التاريخ بفضل الوعي الصحي والإقبال التلقائي على إجراء التلاقيح الضرورية في الأوقات والآجال المطلوبة ومنذ الميلاد



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.