حقوق الانسان في الاسلام

حقوق الانسان في الاسلام


تحتفل شعوب العالم كل عام بذكرى إعلان الميثاق العالمي لحقوق الانسان وهي مناسبة تغتنم من طرف الهيئات العالمية والمنظمات الانسانية للتذكير بما أقرته منظمة الأمم المتحدة في هذا الميثاق المصادق عليه في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948 من حقوق للانسان مهما كانت جنسيته أو لغته أو عقيدته أو لونه أو مرتبته الاجتماعية وهذا الاعلان العالمي لحقوق الانسان جاء ثمرة تفكير عميق واستعراض شامل ومدقق لما عاناه الانسان من ويلات الظلم والاستعباد والقهر والإهانة والحرمان والتسلط كما جاء هذا الإعلان العالمي تعبيرا عن هذه المعاناة ورد فعل على المآسي والجرائم الفظيعة التي ارتكبها الانسان في حق أخيه الانسان إذ كثيرا ما انقلب هذا الآدمي المبجل الخليفة لربه فوق الأرض ذئبا شرسا ووحشا لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا فأزهق الأرواح وأجرى الدماء أنهارا وزرع الأحزان والآلام وتسبب في تشريد عشرات الآلاف من بني جنسه وملأ الأرض ظلما وفتكا وجبروتا وامتهانا لكرامة الانسان الآخر وكثيرا ما أعلن الحروب المدمرة وارتكب الجرائم الفظيعة استجابة لنزواته العدوانية ونزعاته الوحشية واتى بتصرفات جنونية لا انسانية على المكاسب الحضارية فدمرها شرّ تدمير إن تاريخ البشرية الطويل مليء بالمآسي المؤلمة والدماء المخضبة والجروح النازفة والأرواح البريئة المزهوقة لا يستثنى من ذلك مكان في العالم حتى كاد يصدق في هذا الانسان المكرم المبجل المفضل المعزز ما توقعته ملائكة الرحمان عندما أمرها الله تبارك وتعالى بالسجود لآدم واتخاذه خليفة حيث تساءلوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وإذا كان المسلمون يمثلون نسبة لا يُستهان بها بين سكان المعمورة فإن هذا الإعلان يتوجه اليهم مثل سواهم من شعوب العالم للمصادقة على ما جاء فيه والعمل من أجل احترامه وتطبيق ما فيه من مواد مختلفة وان استعراض مواد هذا الاعلان مادة بعد أخرى يخرج منه المسلم بشعور من الاعتزاز والافتخار بأن ما ورد في هذا الاعلان ينسجم تمام الانسجام مع ما جاءت به الأديان السماوية وما احتواه بتفصيل وتدقيق وشمول الدين الاسلامي الحنيف وما أعلنه للبشرية جمعاء وللناس كافة من مبادئ وقيم ومثل انسانية خالدة إن شريعة الاسلام هي نداء للحياة بلغه من الله لعباده سيدنا محمد رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم وأعلنه وبينه وجلاه للناس منذ ذلك التاريخ المتقدم فاستجاب له من شرح الله صدورهم واعرض عنه من اعمت الجهالات والأحقاد والأطماع أبصارهم وبصائرهم فسعد الأوائل واستقامت أمورهم بينما كانت حياة من كفر وأعرض ضنكا ولعذاب الآخرة أشدّ وأعظم إن المستعرض لمواد هذا الإعلان وما جاء في القرآن والسنة والمقارن بين كل ذلك وبين تصرفات المسلمين وعلاقاتهم ببعضهم البعض وعلاقاتهم بغيرهم من الأمم والشعوب يلاحظ ويا للأسف أن القيم الانسانية والمثل السامية تجسمت أكمل تجسيم طيلة تاريخ المسلمين الطويل بما فيه من ضعف وقوة ومد وجزر في علاقة المسلمين بغيرهم فلم نقرأ ولم نسمع عن مظلمة أو مجزرة أو عدوان أو انتهاك صدر عن المسلمين تجاه غيرهم من الأمم والشعوب، لقد شهد بذلك المنصفون من الدارسين والمؤرخين من أمثال قوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب أو توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الاسلام أو سيقريد هونكه في كتابها شمس العرب تشرق على الغرب لقد ارتفع المسلمون عبر تاريخهم الطويل في مختلف فتراته ودوله وفي كل الجهات والأقطار التي عمروها إلى مستوى الاسلام فكانوا مثالا للرحمة والانسانية والعطف والعدل والتسامح جسموا ذلك في حيز الواقع فعاش في ظلال حكم المسلمين اليهود والنصارى مكرمين مبجلين يتمتعون بكل حقوقهم يحمون مما يحمى منه المسلمون وينفق عليهم وتقضى حاجاتهم وتجرى لهم الجرايات من بيت مال المسلمين ويقف بجانبهم أمام قضاة المسلمين أمراء المسلمين جنبا إلى جنب بدون تمييز أو تفضيل وبدون اعتبار لفارق العقيدة والدين وكثيرا ما يقتص قاضي المسلمين من أمير المسلمين لأحد اليهود أو النصارى ممن يعيشون في ذمة المسلمين وما كان هذا السلوك من المسلمين متكلفا ولا متصنعا لقد كان تجسيما وتطبيقا عمليا لأوامر القرآن والسنة النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين للولاة والقضاة وأمراء الجند أعلن الاسلام منذ خمسة عشر قرنا كرامة الانسان (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء، وهي كرامة شاملة للمطيع والعاصي والمسلم وغير المسلم وهذه الكرامة تقتضي صيانة كل حقوق الانسان واهم هذه الحقوق حقه في الحياة فلا يقتل ولا تزهق روحه لقد اعتبر الاسلام مثل هذا الصنيع جريمة نكراء حيث يقول جل من قائل (من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) سورة المائدة، إن التاريخ سيذكر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته للجيش الذي يودعه (لا تقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ لا تقتلوا الحيوان لا تحرقوا الأشجار ستجدون اناسا نذروا أنفسهم لعبادة الله في صوامع فاتركوهم وما نذروا انفسهم إليه) كما ان التاريخ لن ينسى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين صرخته المدوية في وجه عمرو بن العاص واليه على مصر وابنه الذي ظلم القبطي فما كان من عمر إلا ان مكن هذا القبطي من الاقتصاص لنفسه والتفت إلى واليه قائلا (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) كما ان التاريخ لن ينسى لعمر رضي الله عنه موقفه الرشيد وامتناعه من أداء الصلاة في الكنيسة ببيت المقدس مخافة ان يتخذ المسلمون ذلك من بعده ذريعة لافتكاك كنائس النصارى سيذكر التاريخ لعمر رضي الله عنه اعتذاره للذمي المتسول الذي وجده عند المسجد وقراره بصرف راتب له من بيت مال المسلمين بعد ان قال له (ظلمناك أخذنا منك الجزية صغيرا وتركناك كبيرا) ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي أعطى لنصارى بيت المقدس عهدا وميثاقا ظل محترما مطبقا من طرف ولاة المسلمين في زمن السلم والحرب وكان هذا الميثاق معبرا عن نفسية عامة في المسلمين غير مفروضة عليهم جرت فيهم مجرى الدم من العروق فكانت الطاغية على معاملاتهم لغير المسلمين فالمسلم برغم انه مدعو إلى نشر دينه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ومأجور على كل من يدخله إلى صفوف المؤمنين (لئن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم) ولكن كل ذلك ينبغي ان يظل دائما في إطار الحرية وبعيدا عن الإجبار والإكراه وقد صرحت بذلك الآيات القرآنية العديدة (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) هل شهد التاريخ قتلا وتشريدا لنصراني من أجل نصرانيته أو ليهودي من أجل يهوديته في بلاد المسلمين؟ كلا وألف كلا لقد بلغ الأمر بفرق النصارى ان لا تستثيق بعضها البعض على مفاتيح الكنائس فتوكل مهمة الحفاظ عليها إلى عائلة مسلمة ويجري ذلك إلى اليوم وبلغ الأمر بنصارى الشرق ان يخرجوا زرافات وجماعات إلى جانب المسلمين لمقاومة الغزو الصليبي لبلاد الشرق معلنين للمسلمين إنكم أرأف بنا وأرحم لنا من بني عقيدتنا من النصارى الصليبيين الغزاة ان رجلا كالإمام علي رضي الله عنه غضب شديد الغضب من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عندما أوقفه بجوار يهودي أمامه لمقاضاتهما ونسي عمر فنادى عليا بكنيته قائلا له قم بجانب خصمك اليهودي يا أبا الحسن فهذه التكنية للإمام علي اعتبرها ضربا من ضروب التجاوز وعدم المساواة بين الخصمين وهذا ما لا ينبغي أن يتطرق إلى ذهن هذا اليهودي فقضاء المسلمين رائده الحق ووسيلته المساواة الكاملة بين جميع الناس مهما كانت مراتبهم وعقائدهم ان المساواة أصل ثابت من أصول الإسلام رسخها في الأذهان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبدأ المساواة بين الناس لا تنازل عنه في شريعة الاسلام وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندما حاول بعض الصحابة التدخل للتخفيف في حد من الحدود رد عليه الصلاة والسلام بحزم فعن عائشة رضي الله عنها ان قريشا اهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله فكلمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشجع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب ثم قال إنما هلك الذين قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) الشيخان إن فاطمة بضع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فهي ليست فوق القانون والشرع ينالها ما ينال غيرها كذلك آل رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه حذرهم ان يتكلوا عليه ويتركوا العمل (اعملوا آل محمد فو الله اني لا أغني عنكم من الله شيئا لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني يوم القيامة بأنسابكم) لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسم التواضع والقرب من الناس والاستعداد للاقتصاص من نفسه فها هو ذا يهدئ من روع من ارتجف خوفا من جراء وطئه لثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (هدئ من روعك إن انا إلا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) لقد سار الخلفاء الراشدون في حياتهم هذا المسار، مسار التأمين للناس جميعا وإشاعة الطمأنينة في قلوبهم فهذا أبو بكر يعلن في اليوم الأول من توليه الخلافة (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه والضعيف فيكم قوي عندي حتى أخذ له حقه) وهذا الوضع الجديد على الناس جعل الضعيف لا ييأس لضعفه والقوي لا يطمع لقوته وكان انقلابا عظيما في الأنفس قبله البعض عن رحابة صدر ووجد البعض الآخر فيه حرجا وضيقا اذ لا تزال في أنفسهم بقايا غطرسة واستعلاء جاهلي ولكنهم سرعان ما ندموا لأن مناداة الاسلام بالمساواة والعدل بين الناس ليس لها من هدف سوى دوام العمران وصلاح الأحوال وتحابب الناس وترابطهم برباط من الأخوة الصادقة والتقوى الخالصة التي لا رياء فيها ولا تظاهر فيها ولا مغالطة فيها فهي تقوى لا يعلمها إلا الله فهذا جبلة وهو أحد ملوك العرب أسلم وكان يطوف ذات يوم بالكعبة فداس ثوبه أعرابي عن غير قصد فإذا بجبلة يغضب غضبا شديدا ويلطم الأعرابي على وجهه وترفع القضية لعمر رضي الله عنه فيحكم بحق الأعرابي في القصاص ولم يقبل جبلة فهو ملك وهذا أعرابي !! ولكن عمر رضي الله عنه أقنعه بأن الإسلام سوى بينهما فاستمهل جبلة أمير المؤمنين وبدا له أن يفر ويرتد عن الإسلام ويلتحق ببلاد النصارى الذين اكرموه وأسكنوه القصور وفرحوا به شديد الفرح وأغدقوا عليه النعيم ولكن ضمير هذا الرجل تيقظ ذات يوم وعندما سئل عما هو فيه من نعيم وما يشعر به أنكر على نفسه السعادة وندم على ما أقدم عليه من تعال وكبرياء وأنشد يقول تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني منها لجاج ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر تلك بعض مبادئ الحرية والمساواة والعدل نادى بها الاسلام منذ أربعة عشر قرنا وجسمها المسلمون أكمل تجسيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلافة الراشدة لكنها بعد ذلك وان تواصل تطبيقها والالتزام بها من طرف المسلمين تجاه غيرهم فإنهم فيما يتعلق بصلاتهم ببعضهم البعض، أي صلة المسلم بالمسلم، التي دعا القرآن لكي تكون صلة التراحم والتآخي والتعاون سرعان ما انقلبت إلى تدابر وتباغض وتحاسد وتقاتل وفعل المسلم بأخيه المسلم ما لا يفعله العدو بعدوه



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.