منهج الدعوة لدى الشيخ الحبيب المستاوي

منهج الدعوة لدى الشيخ الحبيب المستاوي


بقلم الأستاذ سليمان الكنزاري

      بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، يقول الله تبارك وتعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [الأحزاب الاية22].

       لقد تعرفت على المغفور له الشيخ الحبيب المستاوي في ثلاث مناسبات، الأولى بكلية الشريعة وأصول الدين وكنت آنذاك طالبا بها فكنت ألتقي به في فترات الاستراحة ضمن ثلة من طلبته، وكان الحديث متواصلا حول الدرس فأعجبت بتواضعه مع الطلبة وبرغبته الصادقة في إفادتهم، والثانية في حضوري مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد سنة 1971 بالمنستير وكنت آنذاك مصحوبا بأحد المناضلين من أقاربي السيد الأزهر الكنزاري حيث استمعت إلى مداخلته القيمة أسلوبا ومضمونا والتي دعا فيها إلى تعزيز مكونات الهوية العربية الإسلامية من لغة ودين في كل مجالات الحياة، فتفطنت إلى قدرته العجيبة في الربط بين الإسلام والشأن العام مؤكدا على ضرورة التلازم بينهما في حياة المسلمين تأكيدا لم يرق لبعض الحاضرين في المؤتمر فزاد احترامي له لمنطقية المعادلة التي طرحها وجرأة عرضها.

        وكانت معرفتي أعمق بالشيخ من خلال مسيرته العلمية والثقافية الإسلامية التي كانت تصلنا عبر الإعلام المكتوب والمسموع ومداخلاته -رحمه الله- بصفته عضوا في لجنة الدراسات الاشتراكية التي كنت مواظبا على حضورها والتي كان يشرف على أشغالها السيد الفاضل أحمد بن صالح الأمين العام المساعد للحزب آنذاك، فكان الشيخ الصوت الديني في أشغال هذه اللجنة بالخصوص في المحور الذي نوقش طيلة سنة كاملة حول الإسلام وتحديات العصر.

        فخصوصية الرجل في مسيرته الدعوية والعلمية والثقافية والسياسية تتمثل في محاولته الربط بين الإسلام كمبادئ وتعاليم من عبادات ومعاملات وأخلاقيات وبين الشأن العام فالإسلام عنده سلوك ومعاملة وحياة بل لم يكتف بالدعوة إلى ذلك نظريا.

        وحتى يروج لهذا المبدأ القائم على التلازم بين الإيمان والعمل بالجوارح استخدم جملة من وسائل الاتصال بينه وبين الأمة نخص بالذكر منها أولا:

1-    تأسيسه لمجلة إسلامية:

        أصدر الشيخ مجلة إسلامية أسماها جوهر الإسلام سنة 1968 في ظروف صعبة وهي أول مجلة من نوعها ذات صبغة إسلامية بعد الاستقلال وخصص مواضيعها للثقافة العربية الإسلامية وتحقيقا لمبدأ الأثراء والتنوع دعا للكتابة فيها شيوخ من جامع الزيتونة الأجلاء وثلة نيرة من علماء العرب والمسلمين وتواصل صدور هذه المجلة من بعده بإشراف نجله المثقف المناضل صلاح الدين المستاوي فسار في الخط نفسه إلى حين توقفها عن الصدور لسبب أو لآخر سنة 1986.

        وبالعودة إلى افتتاحيات جوهر الإسلام نستشرف الخط الدعوي الإسلامي الهادف للشيخ منهجا وأسلوبا إذ تعد هذه الافتتاحيات أهم مرجع للعمل الدعوي الإسلامي عند الشيخ الحبيب المستاوي والمهتمين بشأن الصحوة الإسلامية في أبهى صورتها وأصدق مثلها معتمدة في ذلك على القرآن والسنة كمرجعين أساسيين في العمل الدعوي الإسلامي الذي تبناه الشيخ.

        في هذه المقدمات للمجلة يحاول الفقيد -رحمه الله- إبراز حكمة الأوامر الشرعية من عبادات ومعاملات وأخلاقيات لإقناع المتتبع لها حتى يدرك عن اقتناع الحكمة الربانية ونتائجها الإيجابية الكبرى في حياة المسلمين جميعا والتي جعلت منهم كما قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

        كما كان يعرض في هذه الافتتاحيات تجاربه في الدعوة الإسلامية الناجحة شكلا ومضمونا حيث يتوخى الواقعية في التقييم متجنبا الأحكام العاطفية اللاواعية والتي توقع في التطرف وبالتالي الاصطدام حتى كاد يكون معتزليا بأتباعه العقلانية في التبليغ، وكثيرا ما يقدم أسلوبه في الدعوة والمتمثل في الخطاب العقلاني المنطقي الذرائعي أحيانا إلى دعاة الإصلاح بدافع النصح داعيا إياهم بالالتزام به في عملهم الدعوي حتى يثمر عملهم الإسلامي كما كان ينصحهم بنبذ العنف في الدعوة مما ينفر الناس منهم، ومن دعوتهم الصادقة وذلك تأسيا بالمنهج الإسلامي الذي جاء في قوله تعالى: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) مشيرا إلى هذا المنهج القرآني بقوله: (أجل هذه هي دعوة محمد عليه السلام وهذه هي طريقتنا التي سنتوخى سبيلها وأنها سليمة القصد ومأمونة الجوانب إذ ليس في الإسلام عنصر ضعف ولا مركب شذوذ حتى نعمد إلى قضيته بالجلبة والتحمس ونأسف على افتضاحه وهتك أستاره وهو النهج المتبع من قبل بعض الفعاليات الإسلامية في الدعوة مع الأسف).

        واعتقادا من الشيخ بأهمية الشباب المسلم بالنسبة لمستقبل الأمة الإسلامية فإن إيمان الفقيد بشباب الأمة الناهض والمتحمس لديه تحمسا عقلانيا وحتى يكونوا حماة هذه الأمة وهذا الدين العظيم ينصحهم بالمزيد من الخبرة والتسلح بسلاح العلم الصحيح للتعرف على حقائق دينهم حتى يكون التطبيق لمبائه سليما مثمرا.

        كما تصدى الشيخ في دعوته لدحض الشبهات عن الإسلام التي ألبسها إياه أعداء الإسلام من أهله ومن غير أهله، فصحح المفاهيم الاسلامية المنحرفة والتأويلات المغرضة وتطبيقا لهذا المنهج الدعوي، ولما يتحلى به الشيخ من حكمة وبعد نظر وحتى يتواصل إصلاحه لم يصطدم بمن قلدهم الله مقاليد الأمة بل كان يخاطبهم بلغة رقيقة ناعمة فيحملهم مسؤولية صلاح المسلمين أو فسادهم وقوتهم أو ضعفهم ووحدتهم أو تمزقهم وانتصارهم أو انهزامهم وذلك بأسلوب يتسم بكل حكمة ورفق ولين حتى لا يصطدم بالسلطان فيؤثر ذلك على مسيرته الدعوية وقصده الطيب هو إرضاء الله بأداء النصيحة عملا بقوله عليه السلام (الدين النصيحة).

        أما الوسيلة الثانية التي اتخذها الشيخ في نشر دعوته بصفته داعيا مسؤولا فهي منبر الجامع. فكان خطيبا بجامع مقرين على مدى سنوات فيحمل في خطبه المصلين على أن يتفاعلوا معه معتمدا في ذلك على ما وهبه الله من وعي حقيقي ومعرفة صحيحة بالدين الإسلامي وباعتباره مدرس وعظ وإرشاد تجول في العديد من جوامع العاصمة التونسية وأحوازها القريبة جاعلا منها مجالس دينية يلتقي فيها بعامة الناس فيقدم لهم معرفة دينية ميسرة في أسلوبها تعرفهم بربهم ودينهم ويتلقى منهم مسائل ويجيب عنها بوضوح وإقناع بالقرآن والسنة.

        كان رحمه الله في مواقفه ومعاملاته وحتى في حياته اليومية المهنية كما في حياته الاجتماعية وحياته الثقافية يدعو إلى تلازم الإيمان بالعمل والإسلام بالتطبيق فعبر عن هذا التلازم في بعض افتتاحيات مجلة جوهر الإسلام منشور عدد 1401/1981 بقوله (إنه أي القرآن لبلسم لكل داء عضال وشفاء لكل علة إذ هو الجديد المتجدد والينبوع المتفجر والمتصف بالشمول والمرونة يهضم كل فن ويسع كل حضارة ويتفاعل مع كل علة ويسبق العقل البشري في مدارات تجنحاته وطيرانه).

        وهذا ما يجعلنا ندرج الرجل الداعية ضمن الحركة الإصلاحية الحديثة والتي من روادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا كما كان متأثرا بالمدرسة الإصلاحية الزيتونية، والتي من روادها الشيخ سالم بوحاجب وبيرم التونسي والطاهر بن عاشور.

        وكان انخراطه في العمل الوطني حيث كان ناشطا سياسيا فانضم إلى الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة فاتخذ المنابر السياسية ونوادي الحزب ومؤتمراته ومناسباته الوطنية فرصة لتوعية المناضلين وحثهم على مقاومة الاستعمار الفرنسي، وبعد استقلال البلاد حصر دعوته في الجهاد الأكبر والمتمثل في مقاومة التخلف في شتى مظاهره خاصة منه الديني الذي تغلب عليه الخرافات والأساطير والشعوذة والتأويلات الخاطئة للنصوص قرآنا وسنة.

        فلم يترك الشيخ الحبيب بصفته داعية وسيلة من وسائل بث التوعية الاجتماعية والفكرية والدينية والوطنية إلا واستخدمها فكان يلقي الدروس العامة، وبصفته أديب كان يكتب المسرحيات الهادفة وينظم الأناشيد والقصائد الدينية وشارك في الاجتماعات الحزبية ملتزما في كل عمله الدعوي بما هدف إليه والمتمثل أساسا في الربط المحكم بين الإيمان الصحيح والوفاء للوطن والمعادلة التي التزم بها الشيخ -رحمه الله- في مسيرة دعوته هي تحقيق الصلة المتينة بين الإسلام والحياة كلفته تضحيات وأتعاب لم يع أ بها غايته في ذلك وجه الله تعالى وخدمته لدينه الحنيف.

        كما جعل الشيخ من الإذاعة الوطنية التونسية حصتين دينيتين في الأسبوع، الأولى حديث الصباح والثانية حديث الجمعة وحتى يكون مؤثرا في الأخر بمنهجه الدعوي اتخذ الشعر وسيلة للتبليغ بنظمه لديوان شعري عنون له بقوله (مع الله) بأسلوب شعري بليغ مؤثر يدعو في قصائده إلى حب الرسول العظم عليه الصلاة والسلام وأنت تتلو هذا الشعر الإسلامي تحس بصدق العاطفة إلى درجة تزيدك قربا من الرسول فتعجب بشخصيته فتجعله مثالا أعلى في حياتك وقدوة حسنة تهتدي بها كما تحببك في الإسلام كمبادئ وتعاليم إنسانية أبرزها الشيخ الحبيب فيما يتولى تفسيره من آيات بينات كما عبر عنه في مختلف قصائده الإسلامية الفيحاء، ولعله من هذه القصائد الشعرية الإسلامية الرائعة مبنا معنا أتلو على مسامعكم هذا المقطع المؤثر من قصيد له بعنوان حمى المصطفى:

اسمعـوا صيحة الرسـول ينـادي              يـا لقومي، ويـا لأهـل الضـاد

اسمعـوه يتلـو الكتـاب عليهـم                بـاتـزان وحكـمـة واعـتـداد

ليس شعرا.. وليس سحرا.. ولكن           فيض سـر، ومـا لـه من نفـاد

معجـز اللفظ، محكم النسج، بحـر             للمـعـانـي الفسيحـة الأبـعـاد

فيـه من عبـرة القـرون دروس               محـكمـات لطـالـب الإرشــاد

فيـه للحكـم والنظـام دسـاتيـر                 وفيـه عـمــران كـل بــلاد

فـيـه وعـظ منبـه وعـنيـف                  فيـه بشـرى ودعـوة للجـهـاد

        حضرات السادة والسيدات هذا ما أمكنني قطفه من الجنب المشرق للمرحوم الشيخ الجليل الحبيب المستاوي والمتعلق بمنهجه في الدعوى، وقد كلفت بهذه المهمة في وقت قصير وأنا مشغول فيه بجمع الزيتون وما أدراك ما جمع الزيتون أقول هذا لتبرير تقصيري في حق الشيخ الذي أقول له وهو بجوار الرفيق الأعلى. نم قرير العين فإن مخالفيك يوما ما يعبرون اليوم عن ندمهم راجين من الله تعالى أن يغفر لهم وإني لست مؤهلا لأعطي للرجل حقه في خدمة الإسلام والمسلمين والبركة في خلفه الذين تأسوا به وساروا على منهجه الإسلامي الصحيح وفي مقدمتهم الأخ المناضل نجله الأكبر صلاح الدين المستاوي الذي كان نعم الخلف لنعم السلف مقترحا عليه أن يعيد نشر مجلة جوهر الإسلام التي أسسها والده -رحمه الله- حتى تكون مرجعا للدعاة الصادقين منهجا ومضمونا إلى جانب كتاب الله وسنة رسوله.

وأختم كلماتي هذه بما بدأت به قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي به الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما) [الاية22 و23 من سورة الاحزاب].

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.



الكلمات الشائعة الحبيب المستاوي الشيخ المنهج

 

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.