فتاوى مختارة: الزريقة “الحقنة” لا تخل بالصوم

فتاوى مختارة: الزريقة “الحقنة” لا تخل بالصوم


السؤال: هل تزريق الدواء للصائم مخل بالإمساك ومفسد للصوم؟. الجواب: بعد الديباجة: أما بعد، فقد كثر الخوض هذه الأيام في استعمال الصائم الأدوية بواسطة التزريق تحت البشرة هل يبطل الصيام؟ والجواب أن استعمال الأدوية على الوجه المذكور لا يخل بالصوم ولا يوجب الإفطار، لان الصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب ومباشرة النساء كما يدل عليه قوله تعالى: (فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)(1). والتزريق خارج عن مسمى الأكل والشرب وإنما هو من باب التداوي الذي لم يرد المنع فيه ونص الأئمة على إباحته. ففي المدونة: وان قطر في إحليله دهنا أو استدخل فتائل أو داوى جائفة-أي جرحا في الجوف- بدواء مائع أو غير مائع فلا شيء عليه(2). وحصر العلماء الغذاء الذي يحصل به الإفطار فيما وصل إلى الحلق من منفذ أعلى ولو ضيقا، وفيما وصل إلى المعدة من أسفل بشرط أن يكون منفذا واسعا، ففي المختصر الخليلي ما يجب تركه لصحة الصيام ما نصه: وإيصال متحلل أو غيره على المختار لمعدة بحقنة مائع أو حلق أو من أنف وأذن وغيره(3)، ولكون الواجب هو الإمساك عن الأكل ما عطف عليه اختلاف العلماء في الإفطار بوصول ما هو غير طعام تارة إلى الحلق كابتلاع الدرهم والحصى. فقال ابن الماجشون: له حكم الطعام، وقال ابن القاسم: لا قضاء عليه إلا أن يكون متعمدا فيقضي لتهاونه بصومه(4) فجعل القضاء مع العمد من باب العقوبة. ونقل أصبغ(5)(-225هـ=841م) عن ابن القاسم: بلْعُ الدرهم والحصى واللوزة بقشرها لغو في النفل ولو عمدا والقرص إن كان سهوا وإلا قضى. واختار اللخمي(6) (-478هـ=1085م) من هذا الخلاف القول بالإفطار مطلقا وهو الذي قصده خليل وقوله: أو غيره على المختار(7)، ولا شك أن تزريق الأدوية تحت الجلد وإن لم يوصل الدواء إلى الحلق أو المعدة لكنه يحصل للصائم من القوة ما يزيل به مشقة الصوم، فيكون بمنزلة الغذاء الواصل إلى الحلق أو المعدة، ويخل بحكمة الصوم من توهين القوى وإضعافها؟. قلت: تندفع هذه الشبهة بتحقيق أمرين: الأول: بيان الحكمة الأصلية من الصوم. الثاني: بيان أن تحصيل المشقة غير مطلوب للشرع في التكليف. فأما الحكمة الأصلية في تشريع الصوم فلا نسلم أنها توهين القوى بل حمل الإنسان على التخلق بفضيلة الصبر، وكبح جماح النفس في استقصاء شهواتها، والاسترسال في ملذاتها إذ التمتع بالطيبات من الأطعمة ومباشرة النساء لممّا طبعت الأنفس على حبه حتى ركبت الصعب والتلول في سبيل الوصول إليه والاستئثار به ولا شك أن الصوم يكسر من صورة هذا الطغيان لمنعه من أدراك هذه الفوائد، وانتصابه حاجزا منيعا لمن مد اليد إليها إلى أن يقبل الليل. وهذا المعنى حاصل لكل قوي وضعيف سواء كان مستعملا للمقويات أو كان تاركا لها. فلم تختل حينئذ حكمة الصوم ولم تندفع مشقة الامتناع من تناول المستلذات وربما أومأ إلى هذه الحكمة الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنما يذر شهواته وطعامه وشرابه من اجلي فالصيام لي وأنا اجزي به”(8). وأما بيان أن المشقة غير مكلف بها ولا منظور إليها في الأمر الشرعي، فقد بسطه الشيخ الشاطبي في الموافقات أتم البسط وذكر ما حاصله: أن المصلحة هي المقصودة شرعا من الأمر ولتحصيلها وقع الطلب فإن تبعتها مفسدة فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه(9). وأطنب في الاستدلال على ذلك ورتب على ما ذكرناه في مبحث آخر أن المكلف يلزمه أن يقصد في التكليف ما كلف به من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا أو آجلا، لا من جهة ما هو مشقة فليس له أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها. وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل(10). وما ذكره رحمه الله تحقيق بالغ يزيل ما عسى أن ينتاب النفوس من توهم الحرج في محاولة ما يخفف عن الصائم من نصب الصيام، ويحقق أن ذلك لا يعود على هذه العبادة الفاضلة بالنقصان فضلا عن الاختلال بل ربما اقترن بذلك من حسن النية من يرقى بها إلى معارج الكمال(11). (1) سورة البقرة: 187. (2) انظر سحنون: المدونة: 1/177. (3) انظر الآبي: جواهر الإكليل: 1/149. (4) انظر الدسوقي على الشرح الكبير: 1/523. (5) هو أصبغ بن فرج بن سعيد مولى عمر بن عبد العزيز صاحب ابن القاسم: انظر عياض: المدارك: 3/561-الذهبي: تذكرة الحفاظ:2/457- ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/240. (6) هو أبو الحسن علي اللخمي القيرواني له تعليق على المدونة سماه التبصرة-المدارك: 4/797-مخلوف: شجرة النور: 117 رقم 326. (7) انظر المواق: التاج والاكليل: 2/424. (8) انظر مالك: الموطأ: كتاب الصيام: باب جامع الصيام: 1/310. (9) انظر الشاطبي: الموافقات: 2/123-البوطي: سعيد رمضان: ضوابط المصلحة: 70 وما بعدها- الزحيلي: وهبة الضرورة الشرعية: 49 وما بعدها. (10) انظر الشاطبي: الموافقات: 2/128. (11) راجع الزهرة: 25 رمضان 1365هـ-22 أوت 1946م: ع 11235/2.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.