دور الزواجر والبشائر في إصلاح الأنفس البشرية

دور الزواجر والبشائر في إصلاح الأنفس البشرية


اقتضت نواميس الكون وسنن الطبيعة أن يعيش الإنسان في جميع ظروفه وأحواله مفتقرا إلى أخيه الإنسان شاعرا بالحاجة إليه، مضطرا للتعاون معه ولحكمة سماوية عميقة تتأكد هذه الحاجة ويتجلى هذا الاضطرار كلما بدا على الإنسان انه قوي وغني وانه قد توفرت له الأسباب وتهيأت له الظروف والإمكانيات وان من يحاول التملص من هذه الحقيقة التي لا مراء فيها يعتبر في نظر الواقع مخادعا لنفسه وتائها في بيداء ضلاله وغروره لأن كل حركة من حركاته توحي إليه بحاجة وتجعله مفتقرا إلى غيره في كل شيء وقد تكون هذه الحاجة مهمة تافهة في حد ذاتها ولكن العجز عنها والحاجة إليها وعدم القدرة على الاستغناء عنها جعلتها كل شيء في الوجود، ولأن النعمة لا تعرف إلا عند زوالها والمزية لا تظهر في شيء إلا عند الحاجة إليها ومن هنا يجيء تكامل المصالح وتبادل المنافع الذي هو الأس الأعظم من أسس العمران والازدهار والسعادة.

ولإحكام هذا الركن وتدعيم هذا الأساس ألحت الأديان السماوية على تهذيب النفوس وتطهير القلوب لكي يثمر تعاون الإفراد والجماعات ويأتي بالنتيجة المرجوّة منه.

وأوصت جميع النظم الاجتماعية الحكيمة بأخذ هذا الجانب النفسي بعين الاعتبار وجعله حجر الزاوية وبيت القصيد فهيهات أن يثمر مشروع يقوم على إنمائه واستغلاله جماعات من أصحاب الضمائر الخربة والنفوس الشريرة ذلك أن من لا يراعي الله في علنه لا يراعي الله في سره ومن لا يخافه في نفسه لا يخافه في الناس.

وإذا لم يتوطد في أنفس الناس الصدق في القول والإخلاص في العمل فان مشاريعهم الفردية والجماعية تكون في كل لحظة معرضة للخيبة والفشل وها هو البرهان بين أيدينا ينادي بصحة هذه الحقيقة فلقد قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في ما يرويه عن ربه جل جلاله (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن احدهما صاحبه) وان الذي يدفع الشريك الأهوس إلى خيانة شريكه لا يعدو أن يكون إلا سوء تبصر بالعواقب، وتسرعا لاقتناص الثمرة قبل نضجها ومن استعجل الأمر قبل أوانه لا بد أن يمنى في أغلب الأوقات بحرمانه وكم جر الشر على أهله من ويلات ومصائب كان في إمكانهم تفاديها لو عملوا بالحكمة القائلة في التأني السلامة وفي العجلة الندامة بيد أن الطمع الذي هو أصل كل رذيلة يأتي على أولي النهم فإذا بهم يخونون الأمانة ويهدرون دم الكرامة ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير

وهكذا تتبدل المفاهيم ويصبح كل شريك يتحرز من شريكه ولا يمنح أحدهما الثقة للآخر وبانتشار هذه الظاهرة الأخلاقية المشينة ينتشر الريب وتكثر التحفظات وتتجمد المنافع وتتعطل المصالح ويبخل الغني بماله ويؤثر إن يأكله هو وعياله على أن يأكله عامل يخون عمله أو شريك لا يتقي الله في شريكه ولا يوجد كل هذا إلا في من تحلل من تقاليده السامية ومثله العليا تلك التقاليد والمثل التي تضبط نزوات النفوس وتقيد جموح العواطف والأهواء وتجعل الإنسان يشعر دائما بمراقبة دقيقة خفية تسجل عليه ما تقترف يداه بل كل ما يدور بخلده وتوسوس به نفسه (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)

إن هذه الزواجر والروادع وتلك المشوقات والبشائر هي التي خففت بالأمس البعيد من حدة نفوس تكالبت على الإثم والمادة تكالب الكواسر على الجيف وهي التي جعلت منها ومن أصحابها أمة كانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وما تزال تلك القيم إلى اليوم والى ما بعد اليوم خير ضابط للنفوس وأفضل وازع للقلوب بها تلين عرائك الجفاة الغلاظ وبها يقام التوازن العادل بين متطلبات النفس ومتطلبات الروح أو بالأحرى بين حق الله وحق العبد وبها يكون حارس الإنسان ومنبهه ومراقبه أيضا في أحشائه وقاطنا في أعماق قلبه لا يكلف أمته مؤونة الحراسة والتنبيه والمراقبة.

أليس في كتاب الله الكريم وفي سنة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ما يجعل المؤمن بهما يندفع كالصاروخ في ميادين العمل الصالح الذي يعود عليه وعلى أمته ووطنه بالخير العميم أليس فيهما (من غشنا فليس منا) و(ان الله لا يهدي كيد الخائنين)؟

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (ان هذا الخير خزائن ولهذه الخزائن مفاتيح فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)؟

نعم طوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير ومغلاقا للشر وويل لعبد كان على العكس من ذلك، وأي خير عناه النبي صلى الله عليه وسلم وأي شر قصده أهما يعنيان أعمال الآخرة فقط أم يشملان كل ما يقال فيه خير وجميع ما يسمى عند الناس شرا؟

لا أظن أن عاقلا واحدا يفهم من هذا الحديث غير الشمول والإحاطة بأن كل عمل يقوم به ابن آدم ليفجر للناس طاقة نفعية جديدة يؤهل صاحبه للاندراج تحت كلمة طوبى ويبعده إبعادا من وادي ويل، لقد أراد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يلقي في روع آمته أن خير وظيفة يستعمل فيها عبده هي القيام على مصالح الناس بامانة وصدق وإخلاص (اذا أراد الله بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس) و(احبكم الى الله أكثركم نفعا لعباده)

ولهذا فإننا لا نعجب إذا رأينا المصطفى صلى الله عليه وسلم يلح على تدعيم هذه المفاهيم القويمة ويذهب إلى ابعد من ذلك في إقامة الموازنة بين من كان كل همه الدنيا لا ينظر لشيء سواها إلا من خلال منفعته المادية الشخصية وبين من أجمل في الطلب واعتدل في الحب وسلك لغاياته المادية طرقا شرعية شريفة ونراه يخرج في النهاية من معادلته وموازنته بان هذا الأخير لا بد في النهاية من أن تأتيه الدنيا وهي راغمة أما الأول فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وما آماله وأحلامه في النهاية إلا كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.



الكلمات الشائعة

 

الشيخ الحبيب المستاوي

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.