تصحيح المفاهيم: غزوة بدر وفتح مكة نموذجا

تصحيح المفاهيم: غزوة بدر وفتح مكة نموذجا


*إن ضراوة الحملة على الإسلام والمسلمين تدعو حملة الأقلام والعلماء وقادة الرأي والفكر إلى أن يضاعفوا من جهودهم في سبيل تبيين حقيقة دينهم ونبذ تعاليمه لكل مظاهر الإرهاب وينبغي أن تغتنم للقيام بهذا العمل كل الفرص المتاحة وكل الفضاءات المرتادة وأن لا يقتصر التوضيح لحقيقة الإسلام وهديه الداعي إلى الأخوة الإنسانية والتعايش بين الشعوب ونشر الأمن والسلم في كل مكان من العالم على جمهور المسلمين الذين ينبغي الانطلاق منهم والبداية بهم لأنهم الصورة التي يحكم على الإسلام من خلالها ولكن لا بد من تجاوزهم إلى غيرهم من كل شعوب العالم وكلا الفئات كل بما يناسبه وبالأسلوب الذي يقنعه وهذا العمل ليس باليسير ولا هو بالسهل ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا أفراد كما أنه عمل لا ينبغي أن يقتصر على موسم مثل شهر رمضان، نعم قد يتكثف المجهود المبذول في مثل هذا الشهر لاعتبارات موضوعية ولكنه مجهود متواصل لا يعرف التوقف إذا أردنا لهذا العمل أن يؤتي ثمرته المرجوة التي هي تصحيح المفاهيم وتقويم السلوك وجعل الثقة متبادلة بين جميع الناس وأن لا يلحق شر وضرر بأحد منهم.

نريد أن نتوقف عند بعض ما توحيه للمسلم كل من غزوة بدر وفتح مكة من المعاني في هذا الظرف الذي يعيشه المسلمون وتعيشه البشرية جمعاء حيث يطغى موضوع الإرهاب ومقاومته والوقوف في وجهه وتجنيد كل الطاقات المادية والبشرية من اجل استئصاله.

لم يعد الاهتمام بموضوع الإرهاب يقتصر على بلد دون آخر كما لم يعد الاهتمام بموضوع الإرهاب يقتصر على الساسة بل تجاوزهم إلى أهل الفكر والرأي والتربية والاجتماع.

فقد ازداد في الفترة الأخيرة الخلط المقصود وغير المقصود بين الإسلام والإرهاب حيث أصبح المسلمون في تصور البعض وقناعاتهم مصدر إرهاب وترويع للآمنين وتخريب وتدمير لكل المكاسب المادية والمعنوية. وقد ركب موجة تأجيج هذه الحملة على الإسلام والمسلمين بعض الكتاب والساسة ورجال الدين وقرانا وسمعنا وشاهدنا ما لا يمكن أن يتصف بالموضوعية والإنصاف لأن أصول الإسلام الخالدة من كتاب وسنة وسيرة وتاريخ تشهد كلها بأن الإسلام والمسلمين لا يمكن أن يكونوا مصدر تهديد أو إلحاق ضرر أو شر بأي كائن : بشرا كان أو حيوانا أو نباتا.

*إن وقوع غزوة بدر الكبرى وفتح مكة المكرمة في شهر رمضان الذي هو شهر الصيام لدليل على أن هذا الشهر هو شهر بذل وعطاء وأنه لا يمكن أن يكون تعلة للتراخي والتكاسل والتواكل والتخلي عن القيام بالواجبات بل يكون دافعا لمزيد البذل والعطاء باعتبار أن هذا الشهر هو موسم للتزود بخير زاد وخير زاد هو التقوى (لعلكم تتقون).

*فالتقوى زاد روحي فاعل ومؤثر على عطاء وبذل المتصف بها. والصيام مدرسة للصبر والتحمل والمجاهدة لأهواء النفس الأمارة بالسوء، ومن تحكم في نفسه وامتنع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طيلة شهر كامل لا يمكن إلا أن يتغلب على نوازع الشر في داخل نفسه.

*فالمسلم الحق هو من سلم الناس (كل الناس) من لسانه ويده، إن الصيام فيه كبح للجماح وفيه إحساس فعلي بحاجات المحتاجين من ضعاف الحال، إن الصيام يقوي في المسلم الخير من رأفة ورحمة ورقة ومواساة والمسلم عندما يتصف بهذه الصفات الحميدة يستحق رضوان ربه ورحمته ومجازاته وجزيل أجره وثوابه.

*ولا يمكن أن يدعو الإسلام إلى هذه المعاني ويتوالى ورود النصوص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ثم يبرر الإسلام لمعتنقه أي تصرف صغير أو كبير فيه ادني شر أو ضرر بالآخرين!

غزوة بدر الكبرى كانت من أجل استرداد حق مغتصب

*فغزوة بدر الكبرى وهي أول معركة خاضها المسلمون ضد أعدائهم بعد أن أصبح للمسلمين كيان مستقل ودولة تقوم على شؤونهم وتدير أمورهم، هذه المعركة فرضت على المسلمين فرضا فقد كان الخروج لبدر في البداية هو لمجرد اعتراض قافلة محملة بتجارة لقريش كان يقودها أبو سفيان وليس هذا الاعتراض لهذه القافلة من قبيل قطع الطريق واغتصاب أموال الآخرين فذلك تصرف تأباه على المسلمين تعاليم الإسلام فاعتراض هذه القافلة بالذات هو استرداد لبعض حقوق وأموال وضعت عليها قريش أيديها واغتصبتها من المهاجرين.

*ولما تغير الأمر وأصبح مواجهة ومعركة بين قريش وجيش المسلمين المتكون من المهاجرين والأنصار والأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصروه ويحموه مما يحمون منه أنفسهم في المدينة وليس خارجها لأجل ذلك بادر رسول الله باستشارة وأخذ آرائهم وما هم على استعداد لفعله وفي ذلك درس نستخلصه من أن الشورى أساس لكل عمل ناجح.هذه الشورى جسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية عندما نزل عن رأيه إلى رأي أحد أصحابه حيث دعاه إلى تغيير مكان النزول والاقتراب من الماء فإن ذلك من شأنه أن يجعل المسلمين في موقع قوة.

*وما هي إلا جولة أو بعض جولة حتى انتهت أول معركة في تاريخ الإسلام بنصر مؤزر للمسلمين رغم عدم تكافؤ العدد والعدة ففي حين لم يتجاوز جيش المسلمين بضع مئات بأسلحة قليلة تجاوز عدد جيش قريش الألف وقد جاؤوا مدججين بالأسلحة تملا أنفسهم الكبرياء والخيلاء ويقطرون حقدا على المسلمين وفي عزمهم الراسخ أنها الفرصة المواتية للقضاء على الإسلام والمسلمين ولكن هيهات فقد خابت آمالهم وهزموا شر هزيمة وانتصر المسلمون نصرا خلدته آيات الذكر الحكيم (ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة).

*إن بدر معركة فرضت على المسلمين ولم يكن المسلمون البادئين فيها بالعداوة، لقد كانوا مدافعين عن أنفسهم ودينهم وذلك حق مشروع لا يمكن أن ينكره عليهم أحد.

فتح مكة كان بعد نكث قريش لعهدها (صلح الحديبية)

*أما فتح مكة وقد وقع في رمضان فهو أيضا مظهر من مظاهر سماحة المسلمين فقد جاء هذا الفتح بعد أن نقضت قريش صلحا عقدته مع المسلمين هو صلح الحديبية هذا الصلح الذي لم يتقبل بنوده المجحفة اغلب الذين خرجوا من الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأداء عمرة فقد اشتد شوقهم وحنينهم إلى مكة المكرمة حيث بيت الله الحرام قبلتهم في صلواتهم ومع ذلك فإن المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلوا أن يعودوا من حيث أتوا وأمضوا مع قريش هذا الصلح الذي اعترفت به ضمنيا بالمسلمين ككيان مستقل لا ينبغي الاعتداء عليه. ولكن قريش لم تلبث أن نكثت ما أعطته من عهد فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ عليها الحجة وباسم الشرعية عزم هذه المرة على أن يدخل مكة عنوة على قريش رغم أنفها فقد جاء أبو سفيان مستشفعا طالبا التمديد في الصلح ولكن هيهات فلا أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون شفيعا له لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع أبو سفيان يجر أذيال الخيبة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش تجاوز عشرة آلاف رجل من المهاجرين والأنصار صوب مكة المكرمة.وعند مدخل مكة وقف رؤوس قريش صاغرين أذلاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بينهم أبو سفيان الذي أعلن آنذاك إسلامه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش: ماذا تروني فاعلا بكم اليوم؟ قالوا " أخ كريم وابن أخ كريم. قال عليه السلام : اذهبوا فانتم الطلقاء وقال عليه الصلاة والسلام : من دخل بيته فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

*ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة مسبحين حامدين مستغفرين ربهم التواب الرحيم (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) وأقبل الصحابة على الأصنام والأوثان يحكمونها ويطهرون منها بيت الله الحرام وهم يرددون : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

*لقد كان فتح مكة في شهر رمضان فتح الفتوح، إنه الفتح الذي لا هجرة بعده والنصر الذي لم ترق فيه قطرة دم، انه نصر من الله بشرت به آيات الكتاب العزيز قبل وقوعه فقد نزل به الروح الأمين عليه السلام والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عائدون في شبه خيبة بعد صلح الحديبية.

*إن إحياء المسلمين لذكرى غزوة بدر وفتح مكة كل عام في شهر رمضان إنما هو مناسبة لاستخلاص المزيد من العبر وتوضيح الكثير من الحقائق والتأكيد على أن الإسلام هو دين التسامح والتعايش السلمي تأبى مبادئه الظلم والعدوان وإن الجهاد الذي هو بذل الجهد جهدان : أكبر وأصغر، وان الأكبر هو جهاد النفس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : رجعنا من الجهاد الأصغر (ساحة القتال) إلى الجهاد الأكبر (الذي هو جهاد النفس).

*فالمسلمون لا يمكن أن يبدؤوا بالعدوان ولكن من حقهم أن يصدوا كل عدوان يتسلط عليهم وعلى أوطانهم ومقدساتهم والمستضعفين من النساء والشيوخ والولدان.

*إن حركة الفتح قامت بعرض حلول ثلاثة : إما الدخول في الإسلام أو دفع الجزية والبقاء على الدين والحل الثالث هو القتال في ساحة القتال دون غدر أو تمثيل أو عدوان على الضعاف وبذلك أوصى قادة المسلمين جيوشهم الخارجة للفتح بعدم التعرض إلى النساء والشيوخ والأطفال فهذا أبو بكر الصديق يقول ("لا تقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، لا تحرقوا الأشجار، لا تقتلوا الحيوان، ستجدون أناسا نذروا أنفسهم في صوامع لعبادة الله، فاتركوهم وما نذروا أنفسهم إليه).

*إن الإسلام لا يجيز لأتباعه أن يكرهوا أحدا على الدخول فيه والمسلمون هم مجرد مبلغين وداعين إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة إذ (لا إكراه في الدين) والهداية بيد الله وحده (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).

*وتاريخ المسلمين الطويل خير شاهد على أنهم دعاة تسامح وتعايش وهم خير من مارس هذه القيم السامية وجسمها في حيز الواقع فقد تفيا ظلال الأمن والعدل والسلام غير المسلمين من اليهود والنصاري في كل ديار الإسلام مشرقا ومغربا.



الكلمات الشائعة رمضان غزوة البدر الكبرى

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.