الوقاية من حوادث الطرقات واجب ديني ومدني

الوقاية من حوادث الطرقات واجب ديني ومدني


إنّ دعوة الناس إلى تحمل مسؤلياتهم نحو أنفسهم ونحو غيرهم واجتناب الضرر أو التسبب فيه للنفس وللغير يدخل في صميم الدين وجوهره باعتبار أن الأديان عموما والإسلام خصوصا قد بنيت أو أمره ونواهيه وتشريعاته كلها على درء المفسدة وجلب المصلحة للإنسان إذ الهدف والغاية هو إسعاده ماديا ومعنويا وتحقيق سلامته وأمنه وطمأنينته، فالإنسان في الإسلام وفي كل الأديان هو الهدف والغاية. ولا يختلف اثنان في أن الطيش واللامبالاة والتهور وعدم الاكتراث كل ذلك وكل ما يتصل به من قريب أو من بعيد أو ما يترتب عنه يدخل ضمن المسؤولية المترتبة عن الأهلية المتهيأة لكل عاقل راشد. ولقد اعتبر الإسلام المحافظة على العقل إحدى الكليات التي انبنى عليها فحرم كل ما يذهب العقل ويتلفه مثل الخمر والمخدرات، والعقل السليم مهتد إلى الابتعاد عما يتلفه أو يعرضه للخطر ولذلك قيل: كيف يسعى في جنون من عقل؟ والكثير من الحوادث سببها آفة الخمر التي انتشرت في بعض الأوساط فتسببت في المآسي والفواجع الكثيرة والعاقل من اتعظ بغيره وحقق لنفسه السلامة الكاملة في البدن والمال والعرض والدين. ومن أسباب الحوادث المفجعة والخسائر البشرية والمادية الكبيرة: الطيش والتهور والعجلة وعدم التقيد بالضوابط والتعدي على الآخرين وعدم احترام حقوقهم وكل هذه التصرفات المسببة لحوادث المرور تندرج ضمن السلوك الاجتماعي والتصرف مع الآخرين والتعامل معهم. * ولا شك ان عملا كبيرا فيه التوعية والتحسيس والتذكير والتنبيه ولكن أيضا فيه الزجر والمنع وفيه الإلزام نحتاج إلى القيام به للتقليل من حوادث المرور والتقليل من مآسيها وخسائرها، وعمل من هذا القبيل هو إشاعة للسلوك الحضاري والمدني وهو أيضا تجسيم للقيم الدينية التي تضمنتها النصوص القرآنية والنبوية الصحيحة التي تظافرت المقاصد الشرعية والقواعد والكليات الفقهية على الدعوة إليها وهي بذلك من صميم الدين وجوهره على أننا لن نمل التكرار والتذكير بأننا لا نحتاج دائما إلى وجود النص الصريح: قرآنا أو سنة في سبيل ان ندعو الناس إلى درء مفسدة أو جلب مصلحة ذلك ان النصوص متناهية مهما كانت كثيرة وعديدة وحوائج الناس غير متناهية والمعوّل عليه هو المقاصد وروح الشريعة وأهدافها القريبة والبعيدة وإننا لواجدون بيسر ووفق هذه الرؤية المستنيرة بغيتنا التي هي درء المفسدة وجلب المصلحة وتحت هذا العنوان نمضي بعزيمة ندعو الناس إلى ما يحييهم ويسعدهم ونحذرهم من كل ما يرديهم ورحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة الذي جعل المصلحة المرسلة أصلا أصيلا ثابتا لمذهبة إذ المصالح معتبرة أو ملغاة أو مرسلة. والمصلحة المرسلة هي المسكوت عنها، والمسكوت عنه تراعى فيه المصلحة والمصلحة فقط وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله بمعنى مراده من عباده. وهذا الأصل كاف وزيادة ليجعل من الدين من خلال أهل الذكر ومن خلال كل متمثل لحقائقه ومقاصده يندفع بكليته في التوعية والتحسيس بضرورة اجتناب كل ما يمكن ان يعرض سلامة الفرد والجماعة إلى المخاطر: السلامة البدنية والمادية، حينئذ يكون الانتهاء وجوبيا وفوريا وفي مخالفته بتهور وطيش ولا مبالاة ما يوجب تسليط شديد العقاب إذ القاعدة أن (الضرر يزال) وانه (لا ضرر ولا ضرار) وان العدوان وترويع الآمنين جرم عظيم يستحق مرتكبه اشد العقاب حتى يكون عبرة لغيره وذلك يدخل ضمن ما يسمى بالتعزير المتروك لاجتهاد ولاة الأمور في كل عصر بما يلائمه ويحقق الغاية والهدف المرجوين منه. * وما أكثرها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يمكن الاعتماد عليها لدعوة الناس إلى اليقظة والتؤدة والأناة والقصد والاعتدال واحترام الآخرين وعدم التعدي عليهم بالطيش والتهور. ففي وصايا لقمان الحكيم التي تضمنتها سورة لقمان قال الله تعالى (وأقصد في مشيك) وهي دعوة للتوسط وتلافي الإسراع والبطء. والوسطية مسلك حميد في كل شيء وهي إحدى خصائص الشريعة الإسلامية في كل ما أمرت به : في المأكل والمشرب والملبس وسائر التصرفات بما فيها الأحاسيس والمشاعر: حبا وكراهية. * فمثلما ان المسلم مدعو إلى القصد في إنفاقه وبذله أي بدون إسراف وبدون تقتير (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) فكذلك فإن التوسط والاعتدال فضيلة وواجب على المسلم في مشيه وسيره تجنبا لفوات المصالح بالبطء ولكن أيضا تجنبا للمخاطر والأضرار بالعجلة والسرعة وقد حمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه أناته وعدم عجلته وتسرعه حيث قال عليه الصلاة والسلام (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) وفي هذا السياق أيضا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السرعة والعجلة حيث قال (سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن) فالعجلة من الشيطان وفي التأني والتريث السلامة والأمان (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة). وفي الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأناة من الله والعجلة من الشيطان) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء) آمين. * وللطريق الذي يستعمله المشاة والمترجلون والركاب في السيارات والحافلات ومستعملو الدراجات آداب وسلوكيات تنظمها قواعد وقوانين وقد ارشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آداب الطريق، الذي هو من الأماكن العامة التي يستعملها الجميع ولكل فيها حق فلا يجوز التعدي عليه، قال عليه الصلاة والسلام (إياكم والجلوس بالطرقات فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها فقال: إذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله قال : غض البصر وكف الأذى وردّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وإنه لهدي نبوي جامع لكل خير تحت كل قسم منه يمكن أن يندرج كل ما من شأنه أن يدفع عن مستعمل الطريق الشر والضرر أو يجلب له خيرا و منفعة. فكف الأذى وهو أحد حقوق الطريق علينا هو إحدى شعب الإيمان، إذ (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق والحياء شعبة من الإيمان). * وما أعمّها وما أشملها كلمة الأذى الواردة في هذا الحديث إنها تبدأ بالأذى الذي يمكن أن تتسبب فيه وهذا حرام في دين الإسلام وهو ظلم وعدوان والظلم كبيرة من الكبائر ولا يمكن أن يأتيه أو يفعله المسلم إذ المسلم من سلم الناس من لسانه ويده. والإسلام يذهب إلى ابعد من ذلك فيدعو المسلم إلى أن يعمل على إزالة الأذى من طريق المسلمين وهي مرتبة أعلى وارفع في تحميل المسؤولية للمسلم اكتسابا للأجر والثواب وتحصيلا لهما من الله سبحانه وتعالى. * كما ان الإسلام يحمل المسلم مسؤولية وتبعات ما قدمت يداه وهو لئن اعتبر النوايا (إنما الأعمال بالنيات) لتحديد المسؤوليات واستحقاق العقوبات إلا أنه لم يتساهل مع من لم يتريّث ولم يتثبت ولم يتروّ ومن هنا جاءت القاعدة (العمد والخطأ في أموال الناس سواء) وقد قرر الفقه الإسلامي الحق في الدية لأهل المقتول خطأ كل ذلك تحميلا للمسؤولية لمن يتسبب في الخسائر البشرية والمادية ولو عن غير تعمد ولا يخفي ما في ذلك من جبر للخواطر وتعزير وترهيب لكل المتعجلين الطائشين المتهورين غير المقدرين لما يترتب عن تصرفاتهم من أضرار فادحة لا تجبر ولا تنفع معها الندامة وفي العجلة الندامة. وهذا الذي أوردناه قليل من كثير مما تزخر به كتب التفسير والحديث والفقه مما يمكن أن يساعد في عملية التحسيس والتوعية بمخاطر حوادث الطرقات الناجمة عن كثير من التصرفات الطائشة المتهورة اللامبالية والتي لا تنم عن تحضر أو تمدّن كما لا تنم عن خلق ودين. إن هدي الدين الحنيف ومقتضيات التمدن والتحضر تتطابقان وتتظافران على ضرورة الانخراط الفعلي والعملي في حملات التوعية والتحسيس بمخاطر حوادث المرور وذلك بتلافي كل أسبابها والتعاون على اجتنابها كل من ناحيته وحسب مجهوده لأن المخاطر والمصائب والفواجع عندما تحصل لا قدّر الله تعم ولا تخص ولا تستثني أحدا نسأل الله السلامة.



الكلمات الشائعة

 

الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي

خريج جامعة الزيتونة كلية الشريعة قسم الفقه وأصول الفقه : الليسانس وشهادة الدراسات المعمقة في موضوع : شروح الموطأ باحث بجامعة أكسان برفانس مرسيليا فرنسا من 2001-2002 إلى 2008-2009

الكلمات الشائعة

العنوان

28 نهج جمال عبد الناصر –تونس
+216 71 43 21 33
+216 71 32 71 30

الاسلام: حقائق وأعلام ومعالم

موقع الشيخ محمد صلاح الدين المستاوي عضو المجلس الإسلامي بتونس وخريج جامعة الزيتونة (كلية الشريعة وأصول الدين) يتضمن تعريفا بالشيخ والده الحبيب المستاوي رحمه الله وهو احد علماء الزيتونة ودعاة الإسلام حيث سيجد المتصفح لهذا الموقع فقرات من أعماله.